الفهرست
خروج النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) بأموال خديجة إلى الشام
يوم الدار ودعوة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقومه
ولادة فاطمة الزهراء
(عليها السلام)
عمر السيّدة خديجة
(عليها السلام)
زوجتا عثمان، هل هنّ
بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
زواج بنات النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)
كان من المقرر في بادئ الامر ان الخص ما
كتبته في «موسوعة المصطفى والعترة» من ترجمة حياة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين صلوات
الله عليهم أجمعين الى المجلد السادس من ترجمة سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) «بشكل كراس» وذلك خدمة لخطباء المنبر
الحسيني، ولبعض المثقفين، وطلاب الحقيقة، والذين ضربهم التيار الجاهلي فجعلهم
طرائق قِدداً كأيدي سبأ، أو الذين اضطروا للالتجاء الى بلد الكفر، «كالمستجير من
الرمضاء بالنار» لاجعل هذه الكراريس في متناول أيديهم، للاستفادة منها.
ولمّا انتهيت من ذلك وجدت لزاماً عليَّ
ان اسير في الطريق واواصل المشوار الى ما شاء الله، وقد تم الى الان «وللهِ الحمد»
ما ينيف على ثمانية عشر كراساً بضمنها ترجمة شيخ البطحاء أبي طالب، واُم المؤمنين
خديجة الذي هو بين يديك.
وقد تطرقت في بحثي هذا الى حقيقتين
مهمتين، درَسَهما التاريخ ولفقهما ذوي الاهواء الضالة، ولعب في تغيير مسارهما
الوضّاعين من المرتزقة ورواة السوء، الذين باعوا دينهم بدنياهم باغراء معاوية
بالسُحت من الاموال التي سرقها من اموال المسلمين، لتغيير معالم التاريخ، وتشويه
حقيقة الاسلام لاغراضه السياسية، وللحطّ من شخصية اُمّ المؤمنين خديجة، لانّه بدعم
اموالها للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)
أثبتت معالم الدين ومحاربة الكفرة والمشركين في بدء الدعوة.
والذي لفق هذه الفرية - ازنى ثقيف
«المغيرة بن شعبة» ان ادعى وروى ان السيدة خديجة متزوجة برجلين من أعراب الجاهلية
قبل اقترانها بالنبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)
في حين أنها رفضت الزواج ممن تقدم إليها من سادات قريش وزعماء العرب.
والفِرْية الثانية التي أحدثها الوضاعون
هي، أن زينب واُمّ كلثوم، ورقية، بنات رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) من زوجته خديجة، وبعضهم من يقول: إنهن من بنات خديجة
من زوجيها السابقين كذباً وبهتاناً، ليرفعوا بذلك من شأن عثمان بن عفان، وقد سموه
«بذي النورين» والحقيقة الثابتة انهن بنات هالة اخت خديجة، من زوجها، عتيق
المخزومي، او ابو هند التميمي، وإنما تربين في حجر اُمّ المؤمنين خديجة، وانتسبن
اليها بالتبني.
هذه بعض المفتريات التي خلّفها الحزب
الاُموي الضالّ المضلّ وبعض أكاذيبه، وستجد تفصيل ذلك ضمن البحث.
(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
والعاقبة للمتقين).
قم
المقدسة
دار الهجرة 15/ ربيع الثاني/ 1421 هـ
حسين
الشاكري
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن
قصي القرشية الاسدية
اُمّها فاطمة بنت زائدة بن الاصم، واسمه
جندب بن هِدَم الى ان ينتهي نسبها الى عامر بن لوي.
كانت خديجة بنت خويلد - اُم فاطمة
الزهراء (عليها السلام) - من أسرة أصيلة، لها مكانة وشرف في قريش، عُرِفَت بالعلم
والمعرفة، والتضحية والفداء، وحماية الكعبة وحينما جاء تبّع - ملك اليمن - ليأخذ
الحجر الاسود من المسجد الحرام إلى اليمن، هبت قريش ومنهم خويلد لحمايته ومنعه عن
ذلك([1]).
وكان أسد بن عبد العزّى - جد خديجة - من
المبرزين في حلف الفضول الذي تداعت له قبائل من قريش، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا
يجدوا بمكّة مظلوماً من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلاّ قاموا معه
وكانوا على مَن ظَلَمَهُ حتى تُردّ مظلمته.
قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حِلفاً ما أحبّ
أنّ لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الاسلام لاجبت»([2]).
وكان ورقة بن نوفل - إبن عم خديجة - أحد
الاربعة الذين رفضوا عبادة الاوثان، وبحثوا عن الدين الحق. وكانوا من الاحناف،
يدينون الله على ملة ابراهيم. وهم ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، وابن ابي السلط،
وقُسّ ابن ساعدة وغيرهم ممن سَخِروا بالاصنام وعبادتها، واعتبروا ذلك جهلاً
وضلالاً.
قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يوماً في
عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظّمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون به،
فخلص منهم أربعة نفر نجيّاً، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وَليَكْتم بعضكم على بعض.
قالوا: أجل - وهَم ورقة بن نوفل وثلاثة
آخرون - كما سبق ذكرهم.
فقال بعضهم لبعض: تعلّموا - والله - ما
قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم ; ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر،
ولا يضرّ ولا ينفع؟
فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية،
دين إبراهيم([3]).
وحينما نزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف
فقال: يا ابن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له ورقة: والذي نفسي
بيده إنّك لنبيّ هذه الاُمّة، ولقد جاءك الناموس الاكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنّه،
ولتؤذينّه، ولتخرجنّه، ولتقاتلنّه([4])،
ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لانصرنّ الله نصراً يعلمه. ثمّ أدنى رأسه منه فقبّل
يأفوخه ، ثم أنصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلى منزله([5])...
يفهم من هذه الاخبار وأمثالها أن خديجة
كانت من الاُسر العريقة المعروفة بالعلم والفضل، وكان ذووها على الحنيفية دين
إبراهيم، ينتظرون دين الحق. وكانت تسمى في الجاهلية بالطاهرة.
مع ان التاريخ لم يتعرض للجزئيات
المتعلقة بحياة السيدة خديجة، إلاّ أنّ ما وصل إلينا يمكن أن يرسم بعض معالم
شخصيتها المتميزة والبارزة.
وهنا ينبغي الالتفات إلى نكتة مهمة تكشف عن روح هذه المرأة الشريفة الكبيرة، وهمّتها العالية، وحريتها واستقلالها، وهي:
إن خديجة التي ورثت أموالاً طائلة، من
ابيها الذي قتل في حرب الفجار او قبلها بقليل، لم تترك هذه الاموال راكدة، ولم
ترابِ بها في زمن كان الربا رائجاً، وإنّما استثمرت هذه الاموال في التجارة،
واستخدمت رجالاً صالحين لهذا الغرض، واستطاعت أن تكسب عن طريق التجارة ثروة ضخمة
حتى قيل: إنّ لها أكثر من ثمانين ألف جمل متفرقة في كلّ مكان، وكان لها في كلّ
ناحية تجارة، وفي كلّ بلد مال، مثل مصر والحبشة وغيرها([6]).
وقيل: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة ذات
شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم([7]).
ولابد أن نقول: إن إدارة قافلة تجارية
كبيرة من هذا القبيل في ذلك العصر في الجزيرة العربية، كان أمراً عسيراً، ولا سيما
إذا كان المدير امرأة، في زمن كانت المرأة محرومة من جميع حقوقها الاجتماعية،
وكثيراً ما كان الرجال القساة يَئِدون بناتهم دون ذنب.
إذن، لابدّ لهذه المرأة العظيمة من نبوغ
متفوق، وشخصية شامخة قوية وخبرة بشؤون الحياة كافية تؤهلها لادارة تلك التجارة
الواسعة([8]).
ومن نبوغها وحدّة ذكائها ونظرتها البعيدة
أدركت عظمة شخصية الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله
وسلم) وسمو أخلاقه ومستقبله الزاهر قبل تكليفه برسالة السماء، فاختارته
زوجاً لها دون الرجال والشخصيات المرموقة الذين تقدموا لخطبتها والذين سبق ان
ردتهم، بل هي التي تقدمت وعرضت نفسها ورغبت في الاقتران به، على رغم الفرق الشاسع
بين حياتها المادية وحياته البسيطة، وعلى رغم كونها امرأة، ومن صفات المرأة الحرص
على ما تملك، لا سيما إذا كانت ذات ثروة وليس لها كفيل ولا حام يحميها.
ومع ذلك كله فقد عشقت شخصية محمد بن عبد
الله ومكارم أخلاقه وبذلت له نفسها وما تملك قبل البعثة وبعدها، ومكّنته من
التصرّف في اموالها وبذله في سبيل الله والاسلام والدفاع عن القيم الفاضلة.
وكان لاموال السيدة الطاهرة خديجة بنت
خويلد (سلام الله عليها) الاثر البالغ، والركيزة الاُولى، والمنعطف التاريخي
الخطير في تثبيت دعائم الاسلام يومذاك وتقويته، إذ كان الدين الاسلامي برعماً، وفي
خطواته الاُولى وفي دور التكوين، وكان بأمس الحاجة إلى المال لتبليغ رسالة السماء
وبلوغ هدفه، فقيض الله سبحانه لخدمة الاسلام السيدة خديجة وأموالها، وبفضل مالها
تحقق الهدف الاول المنشود، فكان ركناً من أركان الاسلام، وقد أشار سبحانه وتعالى
بهذه الاية (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) أغناك بمال خديجة، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما نفعني مالٌ قط مثل ما
نفعني مال خديجة». وما ثبت دعائم الاسلام إلاّ أموال خديجة وحماية شيخ البطحاء أبي
طالب ونصرته، وسيف علي بن ابي طالب وجهاده المستميت.
حدّث بكر بن عبد الله الاشجعي، عن آبائه
قالوا: خرج عبد مناف بن كنانة، ونوفل بن معاوية بن عروة، تجاراً إلى الشام، في
السنة التي خرج فيها النبي محمّد (صلى الله عليه وآله
وسلم) بأموال خديجة للتجارة إلى الشام، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فلقيهما في
بُصرى أبو الموهيب الراهب فقال لهما: من أنتما؟
قالا: نحن تجار من أهل الحرم من قريش.
قال لهما: من أي قريش؟ فأخبراه.
فقال لهما: هل قدم معكما من قريش غيركما؟
قالا: نعم، شاب من بني هاشم اسمه محمد.
فقال أبو الموهيب: إياه والله أردت.
فقالا: والله مافي قريش أخمل ذكراً منه،
إنّما يسمّونه يتيم أبي طالب، وهو اجير لامرأة منّا يقال لها خديجة، فما حاجتك
اليه؟
فأخذ يحرّك رأسه ويقول: هو هو، فقال
لهما: تدلاني عليه؟
فقالا: تركناه في سوق بُصرى.
فبينما هم في الكلام اذ طلع عليهم،
فقالا: هو هذا.
فخلا به ساعة يناجيه ويكلمه، ثمّ أخذ
يقبّل بين عينيه، وأخرج شيئاً من كُمّه لا ندري ماهو، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يأبى أن يقبله، فلمّا فارقه
قال لنا: تسمعان مني؟ هذا والله نبي هذا الزمان، سيخرج إلى قريب يدعو الناس إلى
شهادة أن لا اله إلاّ الله، فإذا رأيتم ذلك فاتبعوه ، ثم قال: هل ولد لعمه
أبي طالب ولد يقال له
عليٌّ، فقلنا: لا، قال إما أن يكون قد ولد أو
يولد في سنته، وهو أول من يؤمن به، نحن نعرفه، إنا لنجد صفته عندنا في الوصيّة كما
نجد صفة محمد بالنبوة، وأنه سيد العرب وربّانها وذو قرنيها، يعطي السيف حقه، اسمه
في الملا الاّ على عليٌّ، هو اعلى الخلائق يوم القيامة بعد الانبياء ذكراً، وتسميه
الملائكة البطل الازهر المفلح، لا يتوجه إلى جهة إلاّ افلح وظفر، والله لهو اعرف
بين اصحابه في السماوات من الشمس الطالعة.
وهو أول اقتران له (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطاهرة خديجة الكبرى.
بلغ محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ريعان الشباب مفعماً
بالفضائل، والاستقامة، والخُلق القويم، والانقطاع إلى عبادة ربّه الواحد الاحد،
متبتلاً إلى الله سبحانه وتعالى، يحمل بين جنباته روح الانسانية، والتفاني في
إسعاد الاخرين، ويطفح إيماناً وحباً وخلقاً جسَّد مكارم الاخلاق بكماله وتمامه.
بلغ
العلى بكماله * * * كشف الدجى بجماله
حسنت
جميع خصاله * * * صلوا عليه وآله
ومثل هذا الشخص العظيم لابدّ أن يفكر
بالاقتران بامرأة تشاطره هذه الصفات، وترتفع إلى مستوى حياته ، وتعاضده في
بلوغ أهدافه المقدّسة، وتتفهمه وتصمد أمام الهزّات والصدمات التي تنتظره في
المستقبل، وتبذل كلّ غال ونفيس في سبيل نيل الاهداف السامية.
ولم يكن في سماء تفكير محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمة إمرأة تفهمه، وتتحسس
مشاعره وأحاسيسه، وتصلح لتحمّل هذه المهمّة الصعبة، وتكون جديرةً بمشاركتِه، غَير
أن الله قيّض له السيدة الطاهرة خديجة الكبرى (عليها السلام)، المرأة العاقلة،
اللبيبة، الفاضلة، الحنون، الثرية، سيدة مكّة الاُولى.
ولم يخطر على بال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتزوّج من امرأة ثرية، ولم
يشغل المال باله لحظة واحدة من حياته المباركة، إلاّ أنّ السيدة خديجة بنت خويلد
(عليها السلام) هي التي عرضت نفسها عليه، وإختارته لنفسها، ويالها من سعادة.
ولم يكن زواج محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واقترانه بالسيّدة خديجة
الكبرى يشبه الزواج المتعارف بين الناس، ولا بين الخاصة من عليّةِ القوم، بل يعتبر
هذا الزواج النموذج الوحيد من نوعه في الجزيرة العربية، وخاصة بين قريش، إذ كان
ذلك القران الميمون المبارك نتيجة حبّ وتعلق، وتحديق في أعماق الروح والمستقبل
والذوات المقدّسة ، دونما التفات إلى أي دافع مادي أو سياسي أو ما يشبه ذلك
مما يحدث بين العظماء والرؤساء في العالم.
ولم يكن هناك تناسب بين طريقة حياة محمّد
(صلى الله عليه وآله وسلم)الموصوفة بالبساطة
والزهد، حيث كان يعيش في حماية وكفالة عمّه أبي طالب، شيخ البطحاء بعد وفاة جدّه
عبد المطّلب، سيد قريش وعظيمهم، وكانت حياتهم العفيفة البسيطة أقرب ما تكون إلى
الكفاف والزهد على الرغم من علوّ قدرهم ومقامهم الشامخ في مكّة، وبين قريش بصورة
خاصة، وفي الجزيرة العربية، وفي أوساط القبائل بصورة عامّة. وبين حياة ومعيشة سيدة
مكّة الاُولى «خديجة بنت خويلد» القرشية، التي كانت تعتبر أثرى قرشية وأغنى امرأة
في مكّة، حيث كانت أموالها وتجاراتها سائرة في رحلاتها صيفاً وشتاءً، بين مكّة
والشام، وبين مكّة واليمن: سيدة ببركتها كان يعيش العشرات بل المئات من الناس بفضل
تجارتها.
كانت السيدة خديجة (عليها السلام) تحتفظ
بانوثتها وجاذبيتها، وقد بلغت من العمر ثمان وعشرون سنة كما روى ابن عباس، على
خلاف المشهور خطأً بان عمرها كان أربعين عاماً.
وقصّة زواج خديجة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تعدّ منعطفاً مهماً ومن
النقاط اللاّمِعَة النورانيّة في حياتها. فلمّا قتل أبوها خويلد في حرب الفجار
ظهرت عليها روح الاستقلال، والاعتماد على النفس، والحرية بشكل واضح، وكانت تمارس
التجارة كأفضل الرجال عقلاً ورشداً. ورفضت - بإصرار - الزواج من الملوك والاشراف
والاثرياء الذين تقدّموا إليها - لما عرفت به من الشرف والنسب الرفيع والثروة -
وبذلوا لها الكثير من الاموال مهراً لانها لم تجد في احدهم كفئاً لها. ورضيت راغبة
بالزواج من النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)
الفقير اليتيم، لم ترفض أولئك وترضى بمحمّد (صلى الله
عليه وآله وسلم) فحسب، بل تقدّمت بشوق وإندفاع لتقترح على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) الزواج منه والاقتران به.
فأصبح هذا الامر سبباً لسخرية نساء قريش
ونقدهنّ اللاّذع لها. وقد اشتهر أن النساء يعشقنَ الثروة والكماليات في الحياة،
وغاية مطامحهنّ أن يتزوّجن من ثري شريف يعشن في بيته بهدوء، ويشتغلن بالتجمّل
والاُنس، وخديجة لم تبحث عن الرجل الغني لانها لا تحتاج الى ذلك، ولان أفكارها
أجلّ وأرفع من هذا، وإنّما هي تنتظر الزوج العظيم المثالي، والرجل القوي،
والشخصيّة اللاّمعَة، والروحانية الشفافة التي تنجي العالم من وحل الجاهلية،
ومستنقع التخلف والتعاسة. لذلك رفضت كل من تقدم لخطبتها.
وهذا دليل على انها لم تتزوج برجل قبله
بل كانت بكراً عذراء.
والتاريخ يروي لنا أنّ خديجة سمعت من العلماء والاحبار أن محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيّ آخر الزمان فتعلق قلبها به ، فأرسلت إليه تسأله الخروج إلى الشام في قافلة مع مولاها ميسرة - ليراقب تحركاته وسلوكه عن كثب، ولعلّ هذا العمل كان اختباراً لِما سمعته من العلماء والاحبار - فسافر النبيّ بعيرها إلى الشام، فرأى ميسرة منه في الطريق العجائب، وحينما عادوا من السفر حكى لها ميسرة ما شاهده، فوجدت خديجة فيه الشخص الكامل، كما وصفه الاديب:
واحسن
منك لم تر قطُّ عَيني * * * وأجمل منك لم تَلِدُ النساء
خلقت
مبرءاً من كل عيب * * * كأنك قد خلقت كما تشاء
فبعثت إلى محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم)، فقالت له: يا ابن العم، قد رَغِبتُ فيك لقرابتك
منّي، وشرفك في قومك ووسطك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك ، ثم
عرضت عليه نفسها([9]).
فلمّا أراد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتزوج خديجة بنت خويلد أقبل أبو طالب وحمزة في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على عمّ خديجة عمرو بن اسد، فابتدأ أبو طالب بالكلام قائلاً:
«الحمد لربّ هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذريّة إسماعيل،
وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه،
ثم إنّ ابن أخي هذا - يعني محمداً (صلى الله عليه وآله
وسلم) - ممن لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم
عنه، ولا عِدل له في الخلق، وإنْ كان مقلاّ في المال فانّ المال رفد جار وظل زائل،
وله في خديجة رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليّ في مالي
الذي سألتموه عاجله وآجله، وله وربّ هذا البيت حظ عظيم، ودين شائع، ورأي كامل».
ثمّ سكت أبو طالب، فتكلم عمّها وتلجلج
وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر، وكان رجلاً عالماً، فقالت خديجة
مبتدئة: يا عمّاه إنك وإن كنت أولى بنفسي منّي في الشهود فلَستَ أولى بي من نفسي.
قد زوجتك يا محمّد نفسي والمهر عليّ في مالي، فأمر عمّك فلينحر ناقة فليولم بها([10]).
ويروى أنّ خديجه وكّلت ابن عمّها ورقة بن
نوفل في أمرها، فلمّا عاد ورقة إلى منزل خديجة بالبشرى، وهو فرح مسرور نظرت إليه
فقالت: مرحباً وأهلاً بك يا ابن عمّ، لعلّك قضيت الحاجة؟
قال: نعم يا خديجه يهنئك، وقد رجعت
أحكامك إليّ وأنا وكيلكِ وفي غداة غد اُزوجكِ إن شاء الله تعالى بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فلمّا سمعت خديجة كلامه فرحت وخلعت عليه
خلعة قد اشتراها عبدها ميسرة من الشام بخمسمائة دينار([11]).
ولمّا خطب أبو طالب (عليه السلام) الخطبة المعروفة، وعقد النكاح، قام (صلى الله عليه وآله وسلم) ليذهب مع عمه أبي طالب، فقالت
خديجة: إلى بيتك، فبيتي بيتك وأنا جاريتك([12]).
وهكذا تزوّج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)... وكان لهذا الزواج أهميةً
كبرى في حياته، لانّه كان فقيراً معدماً ماليّاً - وقد يكون لهذا السبب أو لاسباب
اُخرى تأخّر زواجه المبارك إلى سنّ الخامسة والعشرين - ووحيداً ليس له عائلة من
جهة اُخرى، وبزواجه المبارك ارتفع الفقر والحرمان، ووجد من يشاركه همومه، ويشاوره
في أمره، ويقاسمه مرّ الحياة وحلوها([13]).
كما أن خديجة (عليها السلام) فرحت بهذا الزواج فرحاً شديداً وغمرتها سعادة ما
بعدها سعادة، سعادة تحقيق أمانيها باقترانها بالرجل المأمول حيث نالت أغلى أمانيها
وغاية مقصودها.
وقد ذكر الرواة بعض ماورد من أشعار اُنشدت في زواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخديجة (عليها السلام):
قال عبد الله بن غنم:
هنيئاً
مريئاً يا خديجة قد جرت * * * لكِ الطير فيما كان منك بأسعد
تزوجتِ
من خيرَ البريّة كلّها * * * ومن ذا الذي في الناس مثل محمّد؟
به
بشّر البرّان عيسى بن مريم * * * وموسى بن عمران فيا قرب موعد
أقرّت
به الكتّاب قدماً بانّه * * * رسول من البطحاء هاد ومهتد([14])
وقال حبر من أحبار اليهود مبشراً خديجة (عليها السلام) بنبوة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم):
يا
خديج لا تنسي الان قولي * * * وخذي منه غاية المحصول
يا
خديج هذا النبيّ بلا شك * * * هكذا قد قرأت في الانجيل
سوف
يأتي من الاله بوحي * * * ويحبى من الاله بالتنزيل
ويزوّجه
ذات الفخار فيضحى * * * في الورى شامخاً على كلّ جيل([15])
وقال بعض النساء ممّن حضرت عقد خديجة (عليها السلام):
أضحى
الفخار لنا وعزّ الشان * * * ولقد فخرنا يا بني عدنان
أخديجة
نلتِ العُلا بين الورى * * * وفخرت فيه جملة الثقلان
أعني
محمّداً الذي لا مثله * * * ولدت نساء الارض في الازمان
صلّوا
عليه وسلّموا وترحّموا * * * فهو المفضل من بني عدنان
فتطاولي
فيه خديجة واعلمي * * * أن قد خصصت بصفوة الرحمن([16])
وخرجت بين يديها صفيّة بنت عبد المطلب (رضي الله عنه)وقالت:
جاء
السرور مع الفرح * * * ومضى النحوس مع الترح
أنوارنا
قد أقبلت * * * والحال فيها قد نجح
بمحمّد
المذكور في * * * كلّ المفاوز والبطح
لو
أن يوازن أحمد * * * بِالخَلق كلّهم رجح
ولقد
بدا من فضله * * * لقريش أمر قد وضح
ثم
السعود لاحمد * * * والسعد عنه ما برح
بخديجة
بنت الكمال * * * وبحر نايلها طفح
يا
حسنها في حليها * * * والحلم منها ما برح
هذا
الامين محمّد * * * مافي مدائحه كلح([17])
صلّوا
عليه تسعدوا * * * والله عنكم قد صفح([18])
وقالت أيضاً:
أخذ
الشوق موثقات الفؤاد * * * وألِفْتُ السهاد بعد الرقاد
فليالي
اللّقا بنور التداني * * * مشرقات خلاف طول البعاد
فزت
بالفخر يا خديجة إذ نِلتِ * * * من المصطفى عظيم الوداد
فغدا
شكره على الناس فرضاً * * * شاملاً كلّ حاضر ثم بادي
كبّر
الناس والملائك جمعاً * * * جبرئيل لدى السماء ينادي
فزت
يا أحمد بكلّ الاماني * * * فنحى الله عنك أهل العناد
فعليك
الصلاة ما سرت العيس * * * وحطّت لثقلها في البلاد([19])
نعم،.... اجتمع شمل محمّد وخديجة، وتأسست
الاُسرة، وبُني البيت الذي يغمره الحبّ والسعادة والحنان والدفء العائلي والتفاهم،
فقد كانت خديجة أول من آمن من النساء بدعوة الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلت كلّ ما بوسعها من أجل أهدافه
المقدّسة، وجعلت ثروتها بين يدي الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) وقالت: جميع ما أملك بين يديك وفي حكمك، إصرفه كيف تشاء في سبيل
إعلاء كلمة الله ونشر دينه.
وتأسّست أول أسرة في الاسلام من لبنات
ثلاث: محمّد، وخديجة، وعلي([20]).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا
ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوة».
وكانت تلك الاُسرة المباركة بمثابة
البذرة الاُولى للثورة الاسلامية العالمية، فقد تحمّلت وظائفها الجسام، ومسؤوليتها
الشاقة في محاربة الكفر والشرك وعبادة الاوثان، ونشر راية التوحيد في العالم،
وإشاعة العدل في ربوعه.
ولم يك على وجه الارض بيت إسلامي سواه،
فعميد البيت محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد
قال الله فيه: (وإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم)([21])
وسيّدة شؤونه الداخلية خديجة (عليها السلام)، وعلي الجندي الفدائي، وهم القاعدة
الاُولى للتوحيد التي ضمّت جنوداً أوفياء، تجهزوا واستعدوا للنفوذ إلى
العالم ، وفتح قلوب الناس، وبثّ عقيدة التوحيد فيها، حتى شملت راية التوحيد
اُمّ القرى وما حولها.
وكان الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) يحبّ خديجة من أعماق قلبه، ويحترمها غاية الاحترام.
كما كان يحب اخيه وابن عمه علي بن ابي طالب (عليه السلام).
يقول ابن هشام: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يودها ويحترمها ويشاورها في
اُموره كلها، وكانت له وزير صدق، وهي أوّل امرأة آمنت به، ولم يتزوج في حياتها
واحدة غيرها([22]).
وقد جاء على لسان النبي الامين (صلى الله عليه وآله وسلم) المزيد من الثناء على أم
المؤمنين خديجة (عليها السلام) فذكر فضائلها وعبّر عن عمق محبته لها.
فيروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «... وخير نساء اُمتي خديجة بنت
خويلد»([23]).
وقال (صلى الله
عليه وآله وسلم): «خير نسائها خديجة»([24]).
وفي حديث عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ذكر خديجة لم يسأم من
الثناء عليها والاستغفار لها، فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة، فقلت: وهل كانت إلاّ
عجوزاً قد اخلف الله لك خيراً منها.
قالت: فغضب حتى أهتزّ مقدّم شعره وقال:
«والله ما أخلف لي خيراً منها ; لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني
إذ كذّبني الناس، وأنفقتني مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني
أولاد النساء».
قالت: فقلت في نفسي: والله لا أذكرها
بسوء أبداً([25]).
وقد ورد في الرواية: أن جبرئيل (عليه السلام) أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
«يا محمّد، هذه خديجة قد أتتك، فاقرأها السلام من ربّها، وبشّرها
ببيت في الجنّة من قصب([26])،
لا صخب فيه ولا نصب»([27]).
وقال (صلى الله
عليه وآله وسلم): «يا خديجة... إن الله - عزّ وجلّ - ليباهي بكِ كرام
ملائكته كلّ يوم مراراً»([28]).
وكان (صلى الله
عليه وآله وسلم) يحترم صديقاتها إكراماً وتقديراً لها.
روي عن أنس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا اُتي بهدية قال: «إذهبوا
إلى بيت فلانة، فإنّها كانت صديقةً لخديجة، إنّها كانت تحبّها»([29]).
وفي الصحيحين: إن عائشة قالت: ما غرت على
أحد من نساء رسول الله ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط ، ولكن كان رسول الله
يكثر ذكرها، وربّما ذبح الشاة فيقطِّع أعضاءها ويبعث بها إلى صدائق خديجة.
فأقول: كأنّه لم تكن في الدّنيا امرأة
إلاّ خديجة.
فيقول: «إنّها كانت، وكان لي منها
الاولاد».
وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّه كان إذا ذبح الشاة يقول:
«أرسلوا إلى أصدقاء خديجة».
فتسأله عائشة في ذلك فيقول:
«إنّي لاحبُ حبيبها».
ويروى: إنّ امرأة جاءته (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في حجرة عائشة فاستقبلها واحتفى بها، وأسرع في قضاء حاجتها، فتعجبت عائشة من ذلك، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«إنّها كانت تأتينا في حياة خديجة».
وجرت مرّة محاورة بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوجته عائشة حين شعرت بالغيرة تملا قلبها من كثرة ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لخديجة، وتعلق حبه بها، فقالت له:
ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، قد أبدلك
الله خيراً منها؟
فآلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا القول ; وردّ عليها قائلاً:
«ما أبدلني الله خيراً منها، كانت اُمّ العيال، وربّة البيت ،
آمنت بي حين كذّبني الناس وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورُزِقتُ منها الولد
وحرمت من غيرها»([30]).
وخديجة بنت خويلد (عليها السلام) حريّة
بهذا القدر والمقام عند رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) بعد أن حازت المقام الرفيع والدرجة السامية عند ربّها، فهي المرأة
التي حباها ربّ العالمين، وبشَّرها بالخلد والنعيم.
ولذا قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). «أفضل نساء أهل الجنة خديجة
بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»([31]).
وقابلته خديجة حبّاً بحبّ، ووفاءً بوفاء، وتضحيةً بتضحية، وآمنت به وبدعوته وبأهدافه المقدّسة، وبذلت كل وجودها من أجل ذلك، وقالت له بتواضع وخشوع:
البيت بيتك، وجميع ما أملك تحت يدك، وأنا
جاريتك.
وكانت تؤازره على أمره، فخفف الله بذلك
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان لا
يسمع شيئاً يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك، إلاّ فرّج الله ذلك عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بها، إذا رجع
إليها تخفف عنه، وتهوّن عليه أمر الناس، حتى ماتت - رحمها الله -... وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)يسكن إليها، ويشاورها في المهم
من اُموره([32]).
بعثة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
هناك روايات كثيرة بطرق متعددة والفاظ
متباينة عن كيفية إبلاغ جبرائيل (عليه السلام)
الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة
في بادئ الامر، غير أني لخصت بعض هذه الروايات بصورة موجزة، جامعة شاملة، مع تغيير
في الالفاظ دون المساس بالمعنى والجوهر، عن طرق روايات أهل البيت (عليهم السلام)
واردفته بصورة موجزة أيضاً مافي الصحاح من طرق روايات العامة، وبينت ما ترويه
صحاحهم في أن الوحي حينما جاء الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) كان نائماً، بينما عليه روايات أهل البيت (عليهم السلام) كان يقظاً
وفي حال تعبد وتهجد وتحنث في الغار.
ذكر المجلسي في بحاره، والطبرسي في أعلام الورى، والفتال النيشابوري في روضة الواعظين، والطباطبائي في تفسيره، والسيد هاشم البحراني في تفسيره البرهان ما معناه ملخصاً:
قبل أن يُبعث الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأول ما بدئ به من الوحي
الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب اليه
الخلاء، والانعزال ، وكان يخلو بغار حِراء يتعبد ويتحنث فيه، وهو التعبد في
الليالي العددية، حتى جاءه الحق وهو في غار حِراء، فجاءه الملَك جبرائيل.
فقال: إقرأ؟
قال: ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد،
ثم أرسلني.
فقال: إقرأ؟
فقلت: ما أنا بقارئ.
قال: فاخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني
الجهد ثم أرسلني.
فقال: اقرأ؟
فقلت: ما أنا بقارئ فاخذني فغطّني
الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني.
فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذي
خَلَقَ * خَلَقَ الاِْنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَْكْرَمُ *
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)الى آخر سورة العلق.
فلما قرأ السورة ونطق بها أبلغه جبرائيل
بانه رسول الله وهنأه بالرسالة والنبوة. فسمع صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت
رسول الله وأنا جبرئيل.
فنزل رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) من غار حِراء ورجع إلى منزله، فما مر بشجر او مدر
إلاّ وسلم عليه وهنأه بالرسالة وشهد له بها، فدخل على زوجته خديجة بنت خويلد.
فقال: زملوني زملوني، فزملوه([33])
حتى ذهب عنه الروع، فاخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي.
فقالت خديجة: كلا ما يخزيك الله ابداً
إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسي المعدم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الخلق.
قال ابن اسحاق: انه حُدِّث عن خديجة (عليه السلام) انها قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة: يا ابن عم هل
تستطيع ان تخبرني بصاحبك الذي يأتيك اذا جاءك؟ قال: نعم. فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندها اذ جاء جبرئيل، فقال:
هذا جبرئيل قد جاءني، فقالت: اتراه الان؟ قال: نعم. قالت اجلس على شقي الايسر،
فجلس، فقالت هل تراه الان؟ قال: نعم ; قالت: اجلس على شقي الايمن، فجلس، قالت: هل
تراه الان؟ قال: نعم ; فتحسّرت وألقت خمارها ، وقالت: هل تراه الان؟ قال: لا
; قالت: ما هذا بشيطان، ان هذا الاّ ملك كريم، يا ابن عم، اثبت وابشر، ثم آمنت به
وشهدت أن الذي جاء به الحق([34]).
فخفف الله بذلك عن رسوله، لا يسمع شيئاً
يكرهه من رد عليه وتكذيب الناس له فيحزنه إلاّ فرج الله عنه بها، اذا رجع اليها
تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه امر الناس([35]).
وبينما هو في نومه واذا به قد اهتز
واضطرب، وثقل نفسه، وبلل العرق وجهه فاستيقظ من نومه ليستمع الى الوحي يقول له:
(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ *
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * والرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ *
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)([36]).
عظم على خديجة ما رأت من حاله، وتوسلت
اليه ان يسلم نفسه للراحة، فقال لها: لقد انقضى يا خديجة عهد النوم والراحة.
فلبست خديجة جلبابها وانطلقت به الى ورقة
بن نوفل ابن عم خديجة وكان شيخاً كبيراً وقد تنصّر وترهب وهو مشغول بكتابة الانجيل
بالعبرانية، وقيل أنه كان من المتألهين الاحناف.
فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن
اخيك.
فقال له ورقة: يابن أخي ما ترى؟ فاخبره
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رأى.
فقال له ورقة: سبوحٌ قدوس، هذا الناموس
الذي أنزل الله على موسى ابن عمران، قدوسٌ قدوس، يا ليتني أكون جَذعاً([37])
يا ليتني أكون حياً، اذ يخرجك قومك([38]).
فقال رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) متعجباً: أو مخرجي هم؟
قال: نعم لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به
إلا عُوديَ ، وان يدركني يومك انصرك نصراً مؤزراً، ويُروى أنه قبّله من رأسه،
ولم يلبث ورقة بعده إلاّ فترة قصيرة حتى مات.
ثم كان جبرئيل (عليه
السلام) يأتيه، فلا يدنو منه إلاّ بعد أن يستأذن عليه، فأتاه يوماً وهو
باعلى مكة، فغمز بعقبه بناحية الوادي فانفجرت عين ماء، فقال جبرئيل (عليه السلام): قم يا محمد فتوضأ للصلاة، فتوضأ جبرئيل (عليه السلام) وتوضأ الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم)، ثم صلى الظهر، وهي أول صلاة فرضها الله عز وجل.
فعَلّمه جبرئيل (عليه
السلام) الوضوء: وغسل الوجه واليدين من المرافق، ومسح الرأس والرجلين،
وعَلّمه الركوع والسجود وحدود الصلاة.
فكان رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت، وتابعه في صلاته زوجته
السيدة خديجة، وعلي بن ابي طالب وهو حدث لم يبلغ العاشرة من عمره، وهما أول من آمن
بالله ورسوله.
وهكذا تم تبليغ الرسالة.
ولقد ورد في الصحاح: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتعبد ويتحنث في غار
حِراء، من كل سنة شهراً واحداً، واذا انفتل ونزل من حِراء، فأول ما يبدأ به ان
يأتي الكعبة فيطوف بها سبعاً أو أكثر.
وهناك روايات متعددة بالفاظ مختلفة لا
تخرج عن هذا المعنى.
لقد اجمع المؤرخون على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لما أمره تعالى ان يُنذر
الاقربين من عشيرته، دعا علياً (عليه السلام) وقال
له: اصنع طعاماً واجعل عليه رجل شاة، واملا لنا عساً([39])
من لبن واجمع لي بني هاشم وعبد المطلب حتى اكلّمهم وادعوهم إلى الاسلام واُبَلّغهم
ما اُمرت به.
ففعل علي (عليه
السلام) ما أمره به، ودعاهم وكانوا يوم ذاك أربعين رجلاً، يزيدون رجلاً أو
ينقصون، فيهم اعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب، وبنو عمومته، فاحضر لهم
علي (عليه السلام) الطعام فاكلوا حتى شبعوا.
وجاء عن علي (عليه
السلام) أنه قال: لقد كان الرجل الواحد منهم يأكل جميع ما شبعوا كلهم منه،
فلما فرغوا من الاكل واراد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ان يكلمهم، بدره أبو لهب عمه إلى الكلام، وقال: لشَدّ ما سحركم
صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم).
وبعد أيام قال لعلي (عليه السلام): يا علي، قد رأيت كيف سبقني هذا الرجل إلى
الكلام، فاصنع لنا في غد كما صنعت بالامس، واجمعهم لعليّ أكلمهم بما أمرني الله.
فصنع علي (عليه
السلام) لهم الطعام، فلما اكلوا وشربوا قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما اعلم انساناً في العرب
جاء قومه بمثل ما جئتكم به، لقد جئتكم بخير الدنيا والاخرة، وقد أمرني ربي أن
ادعوكم اليه، فأيكم يؤازرني على هذا الامر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي،
فاحجم القوم إلاّ علي (عليه السلام)، فقام وهو
احدثهم سناً وارمصهم عيناً واحمشهم ساقاً وقال: انا يا نبي الله، فأمره النبي
بالجلوس وكرر عليهم مقالته فلم يستجب له احد غير علي (عليه
السلام).
ولما رأى النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) احجامهم واصرار علي (عليه
السلام)اخذ برقبته وقال: ان هذا أخي ووصيي، وخليفتي فيكم (من بعدي) فاسمعوا
له واطيعوا، فقام القوم يضحكون، ويقولون لابي طالب: قد أمرك محمد أن تسمع لابنك
وتطيعه.
ما ظهر من آياته ومعاجزه بعد بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم)
واليك هذا الغيض من فيض معاجزه التي لا
تحصى، كل ذلك بفضل رعاية الله تعالى له.
1 - منها: خروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) من داره ليلة هجرته مروراً من بين كفار قريش المحيطين بداره للانقضاض عليه. وقتله، تالياً الاية الشريفة:
(وجَعَلْنا مِنْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ
سَدّاً فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لاَيُبْصِرُون) الى الغار الذي التجأ اليه حيث نسج
العنكبوت شراكه، وبعث الله حمامتين وحشيتين بنت عشَّهما بفم الغار.
2 - ومنها: قدوم فتيان قريش من كل بطن
بعصيهم وسيوفهم يتتبعون آثار اقدامه (صلى الله عليه وآله
وسلم) حتى وصلوا باب الغار فوجدوا نسيج العنبكوت وعش الحمام الوحشي فرجعوا
خائبين وكفاه الله شرهم([40]).
3 - ومنها: أنه أطعم من القليل الجمع
الغفير من اعمامه في يوم الدار حينما اراد ان ينذرهم برسالته ويبشرهم.
4 - ومنها: حديث سراقة حين ادركه عند
توجهه مهاجراً الى يثرب ليتقرب الى قريش بأخذه وقتله، فلما ظن انه نال غرضه دعا
عليه فساخت قوائم فرسه في الارض حتى تغيبت بأجمعها وهو بموضع جدب وقاع صفصف، فقال:
يا محمد أدع ربك يطلق قوائم فرسي ولك ذمة الله عليّ ان لا ادلّ عليك أحداً، فدعا له
فوثب كأنما افلت من انشوطة وكان رجلاً ذا هيئة، عَلِمَ انه سيكون له شأن فطلب منه
اماناً.
5 - ومنها: حديث شاة ام مَعْبد لما هاجر
بطريقهِ الى يثرب (المدينة) فطلبوا ما يشربون فلم يجدوه، وقالت ام مَعْبد: انا
مرملون.
فرأى (صلى الله
عليه وآله وسلم) شاة فقال: ما هذه الشاة يا ام معبد؟
قالت: خلفها الجهد([41])
عن الغنم.
قال: هل بها لبن؟
فقالت: هي أجهد من ذلك.
قال (صلى الله
عليه وآله وسلم): اتأذنين في أن احلبها؟
فقالت: نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها
حلباً فاحلبها.
فدعا بها ومسح على ضرعها وقال: اللّهم
بارك لها في شاتها، فتفاجّت ودرّت، ودعا بإناء لها فسقاها فشَرِبَت حتى رَويَت، ثم
سقى أصحابه فشربوا حتى رووا وشرب هو آخرهم، وقال: ساقي القوم آخرهم شرباً، وشربوا
جميعاً عللاً بعد نهل، ثم حلب ثانياً عوداً على بدء فملا الاناء وأعطاها اياها ثم
غادر من عندها، فجاء زوجها ابو مَعْبد ومعه أعنز عجاف، فرأى اللَّبن فقال: من أين
لكم هذا ولا حَلوب لكم والشاة عازب؟
فقالت: انه مرّ بنا رجل مبارك من حديثه
كيت وكيت، وحدّثته بما جرى.
نقل الزمخشري في كتابه (ربيع الابرار) عن
هند بنت الجون قالت: نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) خيمة خالتها أم مَعْبَدْ، فقام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم
تمضمض ومجّ([42])
في عوسجة الى جانب الخيمة، فاصبحنا وهي كاعظم دوحة([43])،
وجاءت بثمر كأعظم ما يكون في لون الورس([44])
ورائحه العنبر وطعم الشهد، ما أكل منها جائع إلاّ شبع، ولا ظمآن إلا روى، ولا سقيم
الا برئ، وما أكل من ورقها بعير ولا شاة إلاّ درّ لبنها، وكنا نسميها
المباركة ، وينتابنا من البوادي من يستشفي بورقها ويتزود منها، حتى اصبحنا
ذات يوم وقد تساقط ثمرها، واصفر ورقها، ففزعنا فما راعنا إلاّ نَعْيُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم انها بعد ثلاثين سنةً اصبحت ذات شوكة،
من اسفلها إلى أعلاها، وبعدها تساقط ثمرها فذهب، فما شعرنا إلاّ بمقتل أمير
المؤمنين (صلوات الله عليه)، فما اثمرت بعد ذلك، وكنا ننتفع بورقها.
ثم اصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم
عبيط، وقد ذبل ورقها، فبينا نحن فزعون مهمومون إذ أتانا خبر مقتل الحسين (عليه السلام)، ويبست الشجرة على أثر ذلك وذهبت.
أقول: والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه
الشجرة كما إشتهر امر الشاة في قصة هي من اعلام القصص؟.
والراوي الزمخشري وهو من اعلام أهل
السنة.
6 - ومنها: مجيء الشجرة اليه، وقد ذكرها
أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته القاصعة حين
قال له الكفار: ان دعوتها فجاءت آمنّا، فقال: أيتها الشجرة ان كنت تؤمنين بالله
واليوم الاخر، وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله،
فجاءت ولها دوي شديد، «الحديث بتمامه» فقالوا: ساحرٌ كذاب.
7 - ومنها: خروج الماء من بين أصابعه، وذلك
حين كان في سفر وشكا اصحابه العطش وكانوا بمعرض التلف، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): كلا ان معي ربي عليه توكلت،
ثم دعا بركوة فصب فيها ماءً ما كان يروي انساناً واحداً، وجعل يده فنبع الماء من
بين اصابعه، فصيح في الناس: اشربوا، فشربوا، وسقوا حتى نهلوا وعلوا.
8 - ومنها: الذراع المسموم الذي كلمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال ; اني مسموم، وذلك حين
أهدته اليهودية، وقصته معروفة ومشهورة.
9 - ومنها: حينما شكا إليه قوم ملوحة
بئرهم وقلة مائها، وانهم يجدون من الظمأ شدة، فتفل فيها فغزر ماؤها وطاب وعذب،
وكان أهلها يفخرون بها ويتوارثونها([45]).
10 - ومنها كلام الذئب، وذلك أن رجلاً
كان في غنمه فأخذ منه الذئب شاة فاقبل يعدو خلفه فطرحها، وقال بلسان عربي فصيح:
تمنعني رزقاً ساقه الله إليّ؟ فقال الراعي: يا عجباً للذئب يتكلم.
قال: أنتم أعجب في شأنكم عبرةً
للمعتبرين، هذا محمد يدعو إلى الحق ببطن مكة وأنتم عنه لاهون، فأبصر الرجل رشده
وهداه الله وأقبل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وأبقى
لعقبة شرفاً وكانوا يعرفون ببني مكلّم الذئب([46]).
11 - ومنها: حديث الاستسقاء، وذلك حين شكا اليه أهل المدينة العطش فدعا الله فمطروا، حتى اشفقوا من خراب دورهم فسألوه في كشفه، فقال: اللّهم حوالينا ولا علينا، فاستدار حتى صار كالاكليل والشمس طالعة في المدينة والمطر يهطل على ما حولها، يرى ذلك مؤمنهم وكافرهم، فتبسم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: لله درّ أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه، فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: يا رسول الله كأنك تريد قوله:
وأبيض
يُستَسقى الغَمام بوجهه * * * ثمالُ اليتامى عصمة للاراملِ
يطوف
على الهلاّك من آل هاشم * * * فهم عنده في نعمة وفواضلِ
12 - ومنها: انشقاق القمر بأمره، وقصته
معروفة، وغيرها وغيرها من اخباره بالمغيبات والكائنات مما هو مدون ومشهور في كتب
السير والتاريخ، ولو تتبعت ذلك وجمعته لاحتجت إلى عدّة مجلدات، بل ولتعذر جمعه
والاحاطة به، وكيف يمكن ان يصف اللّسان أو القلم فضله وشرفه، وهو خلاصة الوجود؟
أما أخلاقه: فقد مدحه الجليل في محكم
كتابه المجيد بقوله: (وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظِيم)([47])
فقد عجز نعت الناعتين عن بعض صفاته الحميدة، من كرمه، وشجاعته ، وفصاحته،
وبلاغته، وأمانته، وذكره، وشكره، وعبادته، وكرم عِشرَته، وشفقته، وأدبه،
ورفقه ، وتجاوزه، وبأسه، ونجدته، وعزمه، وهمته، وعلمه، وحكمته، وزهده، وورعه،
وصبره، ورضاه، وسخائه، وجوده، الى غير ذلك من خصال نفسه الزكية ومكارم أخلاقه
الحميدة([48]).
حملت السيدة خديجة بفاطمة الزهراء (عليها
السلام)، وتصرمت أيام الحمل، ولم تزل خديجة (عليها السلام) على ذلك إلى أن حضرتها
الولادة، فوجّهت إلى نساء قريش، يجئن ويلين منها ما تلي النساء من النساء.
فأرسلن إليها: عصيتينا ولم تقبلي قولنا،
وتزوّجتِ محمّداً يتيم أبي طالب، فقيراً لا مال له، فلسنا نجيء ولا نلي من أمركِ
شيئاً.
فاغتمت خديجة لذلك... فبينا هي كذلك إذ
دخل عليها أربع نسوة طوال كأنهنّ من نساء بني هاشم، ففزعت منهنّ، فقالت إحداهنّ:
لا تحزني يا خديجة، فإنّا رسل ربّكِ إليكِ، ونحن أخواتِك: أنا سارة، وهذه آسية بنت
مزاحم، وهي رفيقتكِ في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم اُخت موسى بن عمران،
بعثنا الله - تعالى - إليكِ لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء.
فجلست واحدة عن يمينها، والاُخرى عن يسارها، والثالثة من بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة (عليها السلام) طاهرة مطهّرة، فلمّا سقطت إلى الارض أشرق منها نورٌ حتى دخل بيوتات مكّة. وقالت النسوة:
خذيها يا خديجة طاهرة مطهّرة زكية
ميمونة، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة([49]).
يا
حبذا من ليلة الميلاد * * * الليلة العشرين من جمادي
ميلاد
بنت المصطفى الرسول * * * صدّيقة طاهرة بتول
سيّدة
إنسية حوراء * * * فاطمة زكيّة زهراء
يا
ليلة سرّ بها محمّد * * * إذ ولدت بنت النبي أحمد
ميلادها
سرّ قلوب البشر * * * لانّها شفيعة في المحشر
وقرّت
العيون من أبناها * * * كذاك قرّت عين من والاها
خديجة
بمكّة مليكة * * * كانت على العريش والاريكة
حقّ
لها لو فخرت مدى الزمن * * * ببنتها اُمّ الحسين والحسن
نور
الاله قد ضحى وأشرق * * * غصن النبي قد علا وأورق
وأشرقت
مكّه بالانوار * * * وطيبة كذاك بالازهار
بكلّ
الافاق ضياؤها ضحى * * * أنار أطباق السموات العلى
ونورها
قد كان قنديل الضيا * * * معلّقاً في ساق عرش الكبريا([50])
عن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: لِمَ سمّيت فاطمة الزهراء
«زهراء»؟ فقال: «لان الله عزّ وجل خلقها من عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات
والارضين بنورها، وغشّت أبصار الملائكة، وخرّت الملائكة لله ساجدين وقالوا: إلهنا
وسيدنا، ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نورٌ من نوري، أسكنته سمائي، خلقته
من عظمتي، اُخرِجَه من صلب نبيّ من أنبيائي، اُفضِّلهُ على جميع الانبياء، واُخرج
من ذلك النور أئمة يقومون بأمري، يهدون إلى حقي وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء
وحيي».
وكان ميلادها (عليها السلام) ليلة
العشرين من جمادي الثاني في السنة الخامسة من البعثة الشريفة على أصح الروايات عند
أهل البيت (عليهم السلام).
نعم... هذا منبت فاطمة الزهراء... فقد
وُلِدَت من الاصلاب الشامخة والارحام الطاهرة لم تنجسها الجاهلية بانجاسها، ولم
تُلبسها من مدلهمات ثيابها ولدت لابوين كريمين طاهرين، وفي جوّ يغمره الحب والحنان
والوئام، في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وممّا لا شك فيه فإن عوامل الوراثة والبيئة
هذه التي توفرت لفاطمة (عليها السلام)... مع ما جعل الله تعالى لها من الفضل
والكرامة، قد جعلت من فاطمة الوليدة الاولى في عالم الاسلام التي لا تضاهيها وليدة
اخرى.
ففي أجواء هذا البيت وُلِدَت الزهراء،
وتحت هذه الظلال عاشت وترعرعت، وفي هذه الرعاية نشأت وتربت، وكان طبيعياً أن تؤثر
هذه البيئة العائلية على حياة فاطمة، وشخصيتها، فتتأثر بأبويها، وتقتدي بخيرة خلق
الله، خُلقاً وإنسانيةً، فكانت خيرة النساء، وقدوة المرأة المسلمة، وأم الائمة
الهداة.
وهذه فاطمة الزهراء (عليها السلام) سليلة
أبوين جمعا المكارم بكل أطرافه.
سليلة الرسالة السماوية، والوحي الالهي
وطيب الارومة.
سليلة النور والمآثر الحميدة، والمجد
التليد، وام الائمة الهداة الطاهرين.
أقول: وهل كرَّم الله سبحانه وتعالى زينب
وام كلثوم ورقية كما كرم فاطمة الزهراء (عليها السلام) اذا كن شقيقاتها؟؟
وهل النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) كرّمهن كما كرم بضعته فاطمة الزهراء (عليها السلام)
اذا كن شقيقات فاطمة كما يدّعي المخالفون.
وهذه بعض الاحاديث النبوية التي بحقها:
قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني.
قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): فاطمة بضعة مني من اغضبها فقد اغضبني.
قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): فاطمة روحي التي بين جنبي.
قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): فاطمة حوراء انسية.
الى غير ذلك من فضائل فاطمة التي ذكرها
اصحاب السير وأهل التاريخ والمحدثون في صحاحهم ومسانيدهم([51]).
لما رأت قريش عزّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن معه، وانتشار الاسلام بين
القبائل العربية، وعزّ أصحابه الذين هاجروا إلى الحبشة، بالاضافة إلى إعلان حمزة
بن عبد المطلب (رضي الله عنه) الاسلام، ووقوف علي بن أبي طالب (عليه السلام)بفتوّته مدافعاً عن ابن عمه وعن دعوته
الاسلامية، ومناصرة بني هاشم وبني عبد المطلب، وتيقّن المشركون أن لا قدرة لهم على
قتل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّ أبا
طالب لا يسلم محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم)
إليهم ولا يخذله. فأخذهم الفرق من اتساع الدعوة وانتشارها، وأحسوا بالخطر المحدق
بهم على زعامتهم ومصالحهم وأن جميع جهودهم وظلمهم ومقاومتهم للاسلام ولرسوله باءت
بالفشل. لذا حاولت قريش أن تقوم بتجربة جديدة غير اسلوب الارهاب والتعذيب، والضغط،
فلجأت إلى الحصار الاقتصادي والاجتماعي ، ضدّ أبي طالب والهاشميين، وهذا
الحصار لا يخلو من ثلاث حالات:
إما أن يرضخوا لمطالبها في تسليم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لها لتقتله.
وإما أن يتراجع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن دعوته.
وإما أن يموتوا جوعاً وذلاًّ، وهذا
الاجراء يرفع المسؤولية عن الفرد المحدد، فتكون مسؤوليته جماعية عامة، فقرّوا هذا
الرأي بعد اجتماع مشيخة قريش في دار الندوة.
اجتمعوا في دار الندوة، وتداولوا الاراء
مع شياطينهم وقلبوا الامور ظهراً لبطن، فاتخذوا قراراً بالاجماع ان يكتبوا صحيفة
مقاطعة بني هاشم ويودعوها في الكعبة بشروط قاسية وملزمة لكلّ من قريش وكنانه ومن
تابعهم، وهي أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يشاروهم، ولا يحدثوهم، ولا يجتمعوا معهم،
ولا يناكحوهم ولا يقضوا لهم حاجة ولا يعاملوهم حتى يدفع بنو هاشم إليهم محمداً
فيقتلوه، أو يخلّوا بينهم وبينه أو ينتهي من تسفيه أحلامهم.
ووقّع على هذه الصحيفة أربعون زعيماً من
وجوه قريش وكنانه، وختموها بأختامهم، وعلّقت هذه الوثيقة في الكعبة، وكان ذلك في
سنة سبع من البعثة على أشهر الروايات.
ولما علم أبو طالب بصحيفة المقاطعة، قام
إليهم يحذّرهم الحرب، وقطيعة الرحم، وينهاهم عن اتّباع السفهاء، ويعلمهم استمراره
على مؤازرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بكل
ما يستطيع من قوة ويذكّرهم بفضله وشرفه، ويضرب لهم المثل بناقة صالح، ويذكّرهم
بإلغاء أمر الصحيفة. بقوله:
ألا
أبلغا عني على ذات بينها * * * لؤيّاً وخصّا من لؤي بني كعب
ألم
تعلموا أنا وجدنا محمداً * * * نبياً كموسى خُطّ في أول الكتب
وأن
عليه في العباد محبةً * * * ولا حيف فيمن خصّه الله بالحبّ
وأن
الذي لفّقتم في كتابكم * * * يكون لكم يوماً كراغيةِ السقب
أفيقوا
أفيقوا قبل أن يحفر الزبى * * * ويصبح من لم يجنِ ذنباً كذي الذنب
ولا
تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا * * * أواصرنا بعد المودّة والقرب
إلى آخر الابيات المذكورة في ديوان أبي
طالب وفي كتاب، إيمان أبي طالب - للامام شمس الدين بن معد المتوفّى سنة 630 هـ -.
ودخل بنو هاشم الشِعْب - شعب أبي طالب -
ومعهم بنو المطلب بن عبد مناف باستثناء عبد العزّى (ابي لهب) ، لعنه الله
وأخزاه، واستمروا فيه إلى السنة العاشرة ، وكانوا ينفقون من أموال السيدة
خديجة بنت خويلد، وأموال أبي طالب (عليه السلام)
حتى نفدت، ولقد اضطرّوا بعدها إلى أن يقتاتوا بورق الشجر، وكان صِبيَتهم يتضوّرون
جوعاً، وظلّ المسلمون في شعب أبي طالب يقاسون الجوع والحرمان لا يخرجون منه إلاّ
في أيام الموسم، موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة، فكانوا يشترون حينئذ
ويبيعون ضمن ظروف صعبة جداً.
وكان علي بن أبي طالب (عليه السلام) يأتيهم بالطعام سرّاً من مكّة، من حيث
تمكّن، وقد كان يأتيهم سرّاً من اُناس كانوا مرغمين على مجاراة قريش كهشام بن عمرو
أحد بني عامر، الذي كان يأتي بالبعير بعد البعير ليلاً محمّلاً بأنواع الطعام
والتمر إلى فم الشعب، فإذا انتهى به إلى ذلك المكان نزع عنه خطامه وضربه على
جنبيه، فيدخل الشعب بما عليه، ولكن تلك الصِّلات البسيطة لم تكن لتكفيهم. والسيدة
خديجة كانت تشاركهم شظف العيش وفاطمة صبية في أوّل عمرها.
واستمرّت هذه المحنة ثلاث سنين، من السنة
السابعة إلى العاشرة من البعثة، عند ذلك تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي
وسواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم على هذا الحصار الظالم والمقاطعة
الجائرة.
وأول من سعى إلى نقض الصحيفة والاتفاق،
وفكّ الحصار عن الهاشميين، هشام بن عمرو، وزهير بن أبي اُمية المخزومي، والمطعم بن
عدي، وزمعة بن المطلب بن أسد، والبختري بن هشام، واتفقوا أن يفدوا إلى أنديتهم،
ويعلنوا رفض المقاطعة، وإنهاء الحصار.
وجاء في سيرة ابن هشام: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمه أبي طالب: يا عم إن
ربي الله قد سلّط الارضة على صحيفة قريش، فلم يدع اسماً إلا (باسمك اللهمّ). فقال:
ربك اخبرك بهذا؟ قال: نعم.
فخرج أبو طالب إلى أندية قريش قبل أن
يثير النفر الخمسة اعتراضهم على الحصار والمقاطعة، وقال: يا معشر قريش اِن ابن أخي
أخبرني بكذا وكذا، فهلمّوا إلى صحيفتكم، فإن كان كما قال ابن اخي فانتهوا عن
قطيعتنا وانزلوا عما فيها، وإن يكن كاذباً دفعت اليكم ابن أخي، فقال القوم
باجمعهم: قد انصفت ورضينا، وتعاقدوا على ذلك.
وقام المطعم إلى الصحيفة وجاء بها وفتحت
على مرأى من الجميع فإذا بها كما أخبرهم النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) على لسان عمه أبي طالب، قد أكلت الارضة جميع حروفها «إلاّ
بسمك اللّهم» ومزّقت الصحيفة، بعد موقف هؤلاء النفر الذين أبت نفوسهم الكريمة هذه
القطيعة التي كادت أن تقضي على الهاشميين.
وفي تلك السنة، وقبل الهجرة بثلاث سنين،
مرض أبو طالب ثم توفي، رضوان الله عليه، وكان ذلك في شهر شوال، السنة العاشرة من
البعثة النبوية، وكان له من العمر ست وثمانون سنة، وقيل تسعون سنة، ودفن بالحجون
إلى جنب قبري جده وأبيه.
لما حضرت أبا طالب الوفاة، دعا أولاده،
وإخوته وأحلافه وعشيرته وأكد عليهم في وصيته نصرة النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)ومؤازرته، وبذل النفوس دون مهجته، وعرّفهم مالهم في
ذلك من الشرف العاجل والثواب الاجل، وأنشأ يقول:
أوصي
بنصر نبي الخير أربعة * * * ابني علياً وشيخ القوم عبّاسا
وحمزة
الاسد الحامي حقيقته * * * وجعفراً أن تذودوا دونه الناسا
كونوا
فداء لكم أُمي وما ولدت * * * في نصر أحمد دون الناس أتراسا
فهذا الحديث وحده يكفي للدلالة على إيمان
أبي طالب رضوان الله عليه.
وهناك وجوه كثيرة تدلّ على صدق إيمانه
بالله وإقراره بالنبوة نذكر منها وجهين: أحدهما: أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) أن يفعل به ما يفعل بأموات المسلمين من
الغسل والتحنيط والتكفين دون الجاحدين من أولاده، إذ لم يكن حضر أحد منهم سوى علي
أمير المؤمنين (عليه السلام)من المؤمنين، وأما
جعفر فكان يومئذ عند النجاشي ببلاد الحبشة، وأما طالب وعقيل فكانا يومئذ حاضرين،
ولكنهما كانا مقيمين على خلاف الاسلام، ولم يسلم واحد منهما بعد، فخصّ بذلك علياً
أمير المؤمنين (عليه السلام)بتوليه أمره وتجهيزه
لمكان إيمانه، ولم يتركه لهما على رغم أنهما أكبر من علي (عليه
السلام) سناً لمباينتهما له في معتقده، ولو كان أبو طالب مات كافراً، لما
أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)علياً
بتولية أمره لانقطاع العصمة بين الكافر والمسلم، ولتركه لهما كما ترك عمه الاخر
أبا لهب. ولم يعبأ بشأنه، ولم يحفل بأمره، وتولّيه علي (عليه
السلام)تجهيزه من دون أخويه اللذين هما أكبر منه، شاهد قاطع على صدق إيمان
أبي طالب وإسلامه.
والوجه الاخر تأبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا طالب بهذه الكلمات
الرائعة الخالدة، والدعاء له «وصلتك رحم وجزيت خيراً» ووعد أصحابه بالشفاعة له
التي يعجب بها أهل الثقلين، وموالاته بين الدعاء له والثناء عليه، لدليل قاطع على
إسلام أبي طالب وإيمانه، ومنتهى الامر أنه كان يكتم إيمانه ولا يجاهر به، لمصالح
تتعلق بحفظ الاسلام ودعوة التوحيد وهي في أيامها الاُولى، وكان (رضي الله عنه)
يجاهر بالنصرة والحماية. وشيعه (صلى الله عليه وآله وسلم)
حتى مدفنه في مقابر قريش بالحجون الى جنب ابيه عبد المطلب، وجده عبد مناف (رحمهم
الله).
ولم تكن الصلاة على أموات المسلمين مشرعة
غير هذه الصلاة في صدر الاسلام، حتى فرض الله سبحانه صلاة الجنائز فيما بعد، ومثل
ذلك صلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على
زوجته الطاهرة السيدة خديجة، سلام الله عليهما.
ثم رثى الامام علي (عليه السلام) أباه أبا طالب بهذه الابيات.
أبا
طالب عصمة المستجير * * * وغيث المحول ونور الظلم
لقد
هدَّ فقدك أهل الحفاظ * * * فصلّى عليك وليّ النعم
وَلقَّاك
ربُّك رضوانه * * * فقد كنت للمصطفى خير عم
وبعد أيام مرضت السيدة خديجة بنت خويلد،
فدخل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وهي تجود بنفسها، فقال: بالكره مني ما أرى، ولعلّ الله أن يجعل في الكره خيراً
كثيراً.
وبعد شهر وخمسة أيام من وفاة السيدة
خديجة توفى عمّه أبي طالب، وذلك في منتصف شهر شوال من تلك السنة، ولها من العمر
خمس وستون سنة.
عَزّت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الفاجعة، وشقّت عليه، وقد
اجتمعت عليه مصيبتان دفعة واحدة، فقد عمه وحاميه أبي طالب، وفقد زوجته وحبيبته
خديجة بنت خويلد، فقال: واللهِ لا أدري بأيهما أشدّ جزعاً.
فلزم بيته، وقلَّ خروجه، وطمعت فيه قريش،
إذ فقد حاميه، ونالت منه ما لم تكن تنال ولا تطمع به من قبل.
وممّا يذيب القلب حسرةً أنّ خديجة (عليها
السلام) توفّيت قبل مضي عام واحد على خروجها وخروج النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)وصحبه من شعب أبي طالب([52])،
والزهراء بعد لم تذق طعم الحياة، وتتنفس الصعداء وتتلمس الراحة، حين فُجِعَتْ
بوفاة أمّها الرؤوم، فأخذ هذا الحادث المفاجئ منها مأخذاً عظيماً، وصدّع روحها
الشفيفة ومشاعرها الحساسة وصدمها صدمة ذوت لها زهور الامل، وانهمرت دموعها الساخنة
على فقد اُمّها الحبيبة، وهي تبحث عنها في كلّ مكان. فإنّ يتم الاُمّ أعظم أثراً
من يتم الاب لدى الطفل.
وجعلت تلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتدور حوله وتقول: «أبه أين
اُمي؟!» تكرر ذلك عدة مرات فنزل جبرئيل فقال له: «ربك يأمرك أن تقرأ فاطمة السلام
وتقول لها: إنّ اُمّكِ في الجنة في بيت من قصب، لا تعب فيه ولا نصب»([53]).
في تاريخ دمشق لابن عساكر: ولدت السيدة
خديجة بنت خويلد قبل عام الفيل بخمس عشر سنة في مكة، واقترنت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة، وعمرها حينذاك
اربعين سنة([54])،
وبقيت معه اربع وعشرين عاماً، وقد توفيت في مكة قبل الهجرة بثلاث سنين - في السنة
العاشرة من البعثة، بعد خروجها من شعب ابي طالب، وكان عمر فاطمة (عليها السلام)
يناهز الخمس او الست سنين، وعندما توفيت كان عمرها المبارك اربع وستين سنة، ودفنت
في مقابر قريش بالحجون وعندما كانت تنازع ورسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) عند رأسها قال لها: على كره منى ما أرى بكِ، وعسى ان
تكرهي شيئاً فيجعل الله فيه خيراً كثيراً.
ولما قضت نحبها جهزها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحفر لها قبراً في مقابر قريش
بالحجون بالقرب من قبور سادات قريش، وقد انزلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حفرتها والحدها، ولم يكن يومذاك صلاة
الجنازة([55]).
وقال ابن الاثير في الكامل: توفي ابو
طالب في شوال من تلك السنة، وقد توفيت السيدة خديجه قبله بخمسةوثلاثين يوماً في
الحادي عشر من شهر رمضان.
فعظمت المصيبة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهلاكهما حتى سمى ذلك العام،
بعام الاحزان.
وقال ابن اسحاق ; فتتابعت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)المصائب بموت خديجة، وابي طالب
اللذين كان يسكن اليهما، وكانا الدرع الواقي الحصين، وبموتهما، نشطت قريش واستكلبت
على ايذائه([56]).
يلاحظ: مدى الاختلاف في عمر السيدة خديجة
عند اقترانها بالرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فبعضهم يقول: كان عمرها 25 سنة، وآخر يقول: 28، وثالث 30 ورابع 35 ، وخامس
40، وسادس 45 سنة كان عمرها ولكن المشهور هو قول الخامس اي ان عمرها 40 سنة
واشتهاده خطأً وبدون سند.
تكنى ام هند، والطاهرة، في الجاهلية.
وفي ذيل المذيل وغيره: أول امرأة تزوجها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خديجة بنت
خويلد، وجميع اولاده منها، غير ابراهيم، وامه مارية القبطية. ولم يتزوج غيرها في
حياتها حتى ماتت، سلام الله عليها.
في سيرة بن هشام ج2 ص19: كانت السيدة
خديجة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزير
صدق على الاسلام.
وفي الاستيعاب: كانت تدعى بالطاهرة في
الجاهلية.
وفي الاصابة، عن الزبير بن بكار: كانت
تدعى قبل البعثة «الطاهرة».
وفي السيرة الهشامية عن ابن اسحاق: آمنت
خديجة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وصِدّقت بما جاء به من الله، ووازرته على امره، وكانت اول من آمن بالله وبرسوله
وصِدْق بما جاء به من الله ووازرته على امره، فقد خفف الله بذلك عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا يسمع شيئاً بكرهه من ردٍّ
عليه وتكذيب له فيحزنه الاّ فرج الله عنه بها اذا رجع اليها، فتثبته وتخفف عنه
وتصدقه، وتهون عليه من امر الناس، وهناك أقوال وروايات كثيرة لم نذكرها روماً
للاختصار.
كفاها فخراً أنها أسبق نساء الاُمة
اسلاماً وايماناً.
وفي اُسد الغابة بسنده عن انس قال، قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خير
نساء العالمين مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد،
وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ذكر ذلك ارباب السير والتاريخ كافة، في
مصادرهم وبالفاظ مختلفة.
وفي اسد الغابة عن عائشة: قالت: ما غرتُ
على أحد من ازواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ما غِرْت على خديجه، ومابي ان اكون ادركتها. وما ذاك الاّ لكثرة ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها، وان كان ربما يذبح الشاة
يتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهن.
وبسنده عن عائشة: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يكاد يخرج من البيت حتى
يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، ذكرها يوماً من الايام فادركتني الغيرة، فقلت: هل
كانت إلاّ عجوزاً، فقد أبدلك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعر رأسه من
الغضب، ثم قال: والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي اذ كفر الناس، وصدقتني
اِذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ
حرمني أولاد النساء - الحديث -.
وفي تاريخ دمشق لابن عساكر - مثل ذلك
بلفظ آخر ، إلى ان قال: كيف قلتِ؟! ، والله لقد آمنت بي اذ كذبني الناس،
وآوتني اذ رفضني الناس.. الى اخر حديثه (صلى الله عليه
وآله وسلم).
احمد بن جعفر القطيعي... اتى جبرائيل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يتحنث في
الغار فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد اتتك ومعها اناء فيه ادام او طعام او شراب
فاذا هي اتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه
ولا نصب، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ورواية احمد بن سهيل ببخارى،... عن أنس،
قال: أتى جبرئيل (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده خديجة (رضي الله عنها)
فقال: ان الله يقرئ خديجة السلام، فقالت: ان الله هو السلام، وعليك السلام ورحمة
الله وبركاته.
هذاحديث صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه.
وفي اسد الغابة بسنده: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على خديجة في مرضها الذي ماتت
فيه فقال: بالكره مني ما اتى عليك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً
«الحديث».
وهناك أحاديث كثيرة في فضل خديجة اعرضنا
عنها روماً للاختصار.
من الاديان السائدة في الجزيرة العربية
حينذاك وخاصة في مكة عبادة الاوثان ويقال لعَبَدتها المشركون، ويليهم في الكثرة
الاحناف الذين بقوا على دين ابيهم ابراهيم الخليل ويدينون الله سبحانه وتعالى به،
ويليهم النصارى، واليهود، والصابئة وقليل منهم يدينون بالركوسية، وهي خليط من
عقائد الصابئة والنصرانية، كما كانت تدين بها قبيلة طي.
هذا ما كان من الاديان السائدة حينذاك،
ومن الذين يدينون الله بملة ابراهيم من قريش هم بنو هاشم بن عبد مناف الاّ ما شذ
منهم مثل «ابي لهب» عبد العزى بن عبد المطلب، حيث صاهر بني امية ودان بدينهم.
وكثير من بني زهرة، وبني اسد، كانوا من
الاحناف يدينون الله بدين ابراهيم الخليل، ومنهم السيدة خديجة بنت خويلد كانت تدين
الله بالحنيفية، وكذلك ابن عمها ورقة بن نوفل الذي دان بالنصرانية بعد ان كان
حنيفياً.
وكذلك السيدة آمنة بنت وهب واهلها من بني
زهرة والدة النبي الاقدس (صلى الله عليه وآله وسلم)
والسيدة فاطمة بنت اسد الهاشمية واهلها والدة الامام علي أمير المؤمنين
وغيرهم (عليهم السلام) كما يؤيد ذلك الزيارات الواردة عن الائمة الطاهرين
(عليهم السلام): «بقولهم اشهد انك كنت نوراً في الاصلاب الشامخة والارحام المطهرة،
لم تنجسك الجاهلية بانجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها» ولا يمكن عقلاً،
وشريعة، وسليقة، ان يولد حماة الدين من اصلاب المشركين، او الارحام المدنسة بانجاس
الجاهلية، وقد قال الله سبحانه وتعالى: (لا يَنالُ عَهْدِيَ الظّالِمِيْنَ)،
والشرك هو الظلم بعينه، وشاء الله الحكيم ان يحفظ رحم السيدة الطاهرة خديجة الكبرى
ليكون وعاءً طاهراً لصلب رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)ويحتوي النطف الطاهرة (فاطمة الزهراء، واشقائها القاسم وعبدالله)
المكنى «بالطيب والطاهر» وقد توفاهما الله لحكمته وهم اطفال، وما انجبت خديجة
غيرهم، ولم ياذن الله سبحانه وتعالى ابداً ان تولد السيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء
العالمين وولداها الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة وذريتها الائمة الطاهرون
المعصومون ان يولدوا من نطف او ارحام كافرة او مشركة نجسة، حاشا لله.
اقول:
ما كانت ام المؤمنين خديجة مشركة ولا
انحنت لصنم بل كانت هي وآباؤها موحّدون احناف مسلمون يدينون الله تعالى على ملة
ابيهم ابراهيم (عليه السلام) وكان قبل بعث الاسلام
هو الدين الحق، والمقبول من قبل السماء.
ولو ان سنة النكاح الجارية عند المشركين
في الجاهلية مشروعة وليست سفاحاً إلاّ ما شذ منها مثل نكاح زوجة الاب بعد موته،
غير انها لا توازي طهارة وشرعية نكاح الاحناف الموحدين قبل البعثة.
واين نسبة نكاح الايمان من نكاح الكفر؟!!
لقد اثبت المرحوم القاضي الشيخ عبد
الواحد الانصاري بادلة قاطعة من مصادر موثوقة في سِلسِلته التاريخية ان السيدة
خديجة حينما اقترنت بالنبي كانت عذراء باكر لم يمسها بشر، وان ما ادعاه المؤرخون
من اهل السنة، من زواجها باثنين من المشركين هي اقوال لا يركن اليها ولا تستند على
اساس متين انما هي تكهنات وفرضيات اموية يراد منها توهين مقام السيدة خديجة (عليها
السلام) واعلاء شان عثمان بن عفان ليجعلوه صهراً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)واطلقوا عليه لقب - ذي النورين
-.
نعود الى المزاعم القائلة بزواج السيدة
خديجة (عليها السلام)من رجلين جاهليّين قبل اقترانها بالمصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)فنقول: ان ذلك لا يناسب هذه
المرأة الجليلة، الموحدة والحنيفية الدين ان يطائها مشركان، والتي عُرِفت لها
مكانتها الشامخة المرموقة في وسطها من قريش، وكانت تدعى بـ (الطاهرة) وقد دون لها
التاريخ سيرتها العطرة، حتى امتازت بين سيدات مجتمعها، فكيف تقترن برجلين نكرتين،
امثال أبي هالة زرارة التميمي، او عتيق بن عائد المخزومي، في الوقت الذي هجرتها
نساء قريش حينما اقترنت بالمصطفى (صلى الله عليه وآله
وسلم) وغضبن عليها، فقلن لها: خطبك اشراف قريش وامراؤهم فلم تتزوجي احداً
منهم، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له؟!!
مع ان النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) في نظر قريش، ذو نسب شريف والمعروف بالصادق الامين،
وحفيد عبد المطلب سيد البطحاء وشيخ قريش، وابن اخ ابي طالب الذي انتهت اليه زعامة
البطحاء، فكيف يجوز عقلاً ان تتزوج السيدة خديجة من مشركين، وهي الحنيفية ديناً
وتترك سادات قريش وتمتنع من أشرافهم؟!! الا يعلم اهل البصائر وذوي النهى انه من
ابين المحال، وافضع المقال؟!!
ولكن المؤرّخون من أهل السنّة مجمعون على
ان السيدة خديجة متزوّجة برجلين قبل اقترانها برسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) ولكنّهم اختلفوا في زينب ورقية وام كلثوم في هل هُنَّ
بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة
(عليها السلام) أم انهنَّ بنات زوجيها السابقين، والمؤرخون ينقلون الاخبار على
عواهنها ويردّدونها دون تحقيق او تمحيص، وكذلك قولهم ان زينب ورقية كانتا ابنتي
هالة اخت خديجة.
واُلحِقَ نسبهما ونسب اخيهما هند، برسول
الله وخديجة كما في سنة العرب الجاهلية، لان اسم خديجة كان نابهاً شائعاً معروفاً،
واسم اختها هالة خاملاً مغموراً، فظنوا لما غلب اسم خديجة على اسم اختها هالة.
اقول: لقد اختلف المؤرخون من اهل السنة،
وتضاربت آراؤهم فيمن تزوج بالسيدة خديجة قبل اقترانها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمنهم من قدم عتيق بن عابد
المخزومي، ومنهم من قدم مالك بن زرارة التميمي، فولدت له هند، ومنهم من يقول غير
ذلك!! كل ذلك للحط من السيدة الطاهرة خديجة.
لقد تحدث المؤرخون والمؤلفون في السيرة
عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل
زواجه من خديجة، يوم كان يسافر في تجارتها، واضاف اكثر المؤلفين في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى ان خديجة بنت خويلد التي
جمعت الى جانب ثروتها المادية، الشرف، والعفة، والذكاء والصون، والكرم، واصبحت تعد
السيدة الاولى في مكة في ذلك العصر، وبعد ان عَرفْتَ هذه السيدة ما كان يتمتع به
محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من
صفات الكمال التي رفعته على السادة من اشراف قريش مِن مكارم اخلاقه وصِدقه،
وأمانته، وعفته، وخدماته التي كان يقدمها لذوي الحاجات، بعد ان اشتهر أمره بذلك،
ولقب بـ (الصادق الامين) دعته السيدة خديجة الى المضاربة في تجارتها الى الشام
لقاء أجر معين يعادل ضعفي ما كانت تفرضه لغيره من المكيين، وفي بعض الروايات تنص
انه (صلى الله عليه وآله وسلم) ضاربها في تجارتها
وما كان اجيراً لان مكانته السامية ارفع من ان يكون اجيراً باموالها. وتشاء
الارادة ان يلبِّي طلبها ويذهب لاول مرة في تجارتها مع غلام لها يدعى مَيسرة
كمعاون له على ادارة شؤون القافلة ورعاية الابل حسبما تفرضه المصلحة، وللتثبّت عما
يتمتع به (صلى الله عليه وآله وسلم)من الصفات
الحميدة ومكارم الاخلاق، والامانة، والاخلاص، وسمو الذات.
وتمت الرحلة والتقى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ابو الموهيب الراهب، وميسرة
يشاهد كل ماحدث وما جرى من غرائب الامور والمعاجز التي لم ير لها مثيلاً من قبل في
سفراته السابقة، وكانت مع ذلك تلك الرحلة ناجحة تجارياً، وارباحها خيالية قفزت عن
الربح المتعارف بشكل لم يكن احد يتصوره من التجار، ورجعت القافلة تحرسها عناية
الله سبحانه، واسرع مَيسرة الى مكة تاركاً محمداً (صلى
الله عليه وآله وسلم)ومن معه من التجار ليقصّ عليها اخبار تلك الرحلة وما
شاهده من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وابو
الموهيب الراهب من الكرامات التي تدهش وتحير العقول، من الغمامة التي كانت تظلّل
عليه من الشمس وغيرها.
دخل محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) مكة في اليوم الثاني ومضى من ساعته ليؤدي الامانة إلى
خديجة، فاستقبلته ببشاشتها المعروفة وشكرت له جهوده، وهنأته بسلامة العودة، لكنها
احست بشيء جديد طرأ على حياتها، وباتت ليلتها تفكر في أمر هذا الانسان، الذي ملك
احساسها وترقبت له مستقبلاً حافلاً بالاحداث ستنجلي عنه الايام والاعوام القريبة
القادمة، وكانت قد صممت ان تعيش بعيدة عن الرجال ومشاكلهم ايام فتوتها وشبابها،
وهاهي اليوم أشد تصميماً على ذلك وقد اصبحت على ابواب الاربعين من عُمرِهَا،
ولكنها عادت تفكر في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
لا في غيره من الرجال الذين تقدموا لخطبتها من قبل طمعاً في مالها وثروتها، وودّت
لو يبادلها هذا التفكير ويتقدم في خطبتها، لكنه لم يصنع شيئاً من ذلك، فارسلت اليه
مع امرأة من المكيات صديقتها تدعى نفيسة ابنة منبه لتسأله عما يمنعه من الزواج وقد
بلغ الخامسة والعشرين من عمره، فأجابها بأن لا شيء يمنعه إلاّ عدم توفر المال
لديه، ولما نقلت اليه رغبة خديجة، رَحّب بتلك البادرة وعَرضها على عمه الكفيل ابي
طالب خاصة وبقية اعمامه فتلقاها اعمامه بالقبول والترحاب، وكلهم يعرف فضل خديجة
وثراءها الواسع وشرفها العريق، وذهب ابو طالب من ساعته ومعه حمزة بن عبد المطلب
وبعض بني عبد المطلب الى عمها عمرو بن أسد، لان أباها خويلد بن اسد قتل مع من قتل
من قريش في حرب الفجار.
وخطب خطبته المعروفة التي سبق ذكرها.
وقد سبق ان ذكرنا تقدم الاشراف من سادة
قريش لخطبتها، فردتهم وامتنعت عن الزواج من احدهم طمعاً في اموالها، ولكنها وجدت
في محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)شيئاً
اسمى مما تعهده في سادات قريش الذين تقدموا لخطبتها، فقد وجدت فيه حسب المعلومات
التي توفرت لديها عنه ضرباً آخر من الرجال، لا تستغويه امتعة الدنيا، ولديه من
مكارم الاخلاق ما يرتفع به فوق الجميع، وكان رجل احلامها. فطلبته الى نفسها،
وارسلت اليه من يشجّعه على خطبتها كما ذكرنا ذلك من قبل.
وهذا البحث يدلنا على أن السيدة خديجة
لما اقترنت بالنبي كانت عذراء بكر وهو اول رجل يتزوجها او قبلت بالزواج منه.
وليس غريباً على المرأة الفاضلة كخديجة ان تطلب لنفسها محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتفضله على سادة مكة واشرافها، فلقد كان القمة في صفاته الحميدة التي لم يعرف له العرب مثيلاً في ماضيهم وحاضرهم، واجتهد خصومه ان يجدوا في حياته ولو نزوة تخدش تاريخه المجيد، وسلوكه المستقيم، او مغامرة منه لنيل جاه او اصطياد ثروة، او انحراف مع غرائز الشباب التي تثور وتتمرد احياناً على العَقل والخُلق والحِكمة فلم يجدوا شيئاً من ذلك، وكان قد جمع إلى ذلك من صباحة الوجه وجمال التركيب، مالم يتوفر في احد سواه كما ووصفه عارفوه:
واحسن
منك لم تر قط عيني * * * واجمل منك لم تلد النساءُ
خلقت
مبرءاً من كل عيب * * * كأنك قد خلقت كما تشاءُ
وقال أديب آخر:
بلغ
العلى بكماله * * * كشف الدجى بجماله
حسنت
جميع خصاله * * * صلوا عليه وآله
عدا ان بعضهم يقول: ان زينب ورقية وام
كلثوم من أزواج خديجة الاول.
وانفرد السيد هاشم معروف الحسني بان أم
المؤمنين خديجة انجبت له (صلى الله عليه وآله وسلم)
ستة أولاد ما بين ذكور واناث وهم القاسم وبه يكنى، وزينب، ورقية، وام كلثوم، وعبد
الله، وفاطمة، وتوفي القاسم بعد أن بلغ سن يمكنه ركوب الدابة، على حد تعبير الشيخ
الغزالي في كتابه (فقه السيرة) ومات عبد الله وهو طفل وكان يكنى بالطيب والطاهر،
وماتت سائر بناته في حياته الاّ فاطمة (عليها السلام) فانها عاشت بعد ابيها خمسة
وسبعين يوماً كما جاء في رواية الكليني، او ستة اشهر كما جاء في رواية المؤرخين.
فقد كانت السيدة الطاهرة خديجة تنظر بنور
الله وثاقب بصيرتها الى ما ينتظر محمد بن عبد الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) من الرفعة، والعظمة، والخلود، في رسالته التي قيضه
الله تعالى واعده لحملها، بعكس ما ينظرن سيدات مجتمعها من الامور الظاهرية المادية
وحطام الدنيا الزائل.
هذا ما كان يعتقده أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) وشيعتهم.
اما ما يذهب اليه مؤرخو العامة من أهل
السنة، فيه خلط كثير ، ومذاهب شتى، متضاربة بحيث يتيه القارى بايها يأخذ، كل
ذلك التاويل والتهويل غايتهم اثبات بنوة زينب ورقية لرسوله الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكونهما شقيقتي فاطمة الزهراء
من امها وابيها ليرفعوا بذلك من شأن عثمان بن عفان الذي تزوجهما الواحدة بعد
الاخرى حتى يكنى (بذي النورين)، وهي واحدة من المؤامرات والمكائد التي حاكها الحزب
القرشي والحزب الاموي حقداً ونكاية للسيدة ام المؤمنين خديجة بعد موتها، لانها
سخّرت جميع ما تملك لخدمة الدين العزيز وتثبيت رواسي الرسالة، ولولا اموال خديجة
ودفاع عمه ابي طالب، وسيف علي بن ابي طالب (عليه السلام)
لما قام لهذا الدين من قائم، كما ان حسد المنافقين، واعداء الاسلام وحقدهم على
السيدة خديجة وابنتها فاطمة الزهراء (عليها السلام)وبعلها وابيه ابي طالب، كان
ظاهراً للنيل منهم.
وحاك على منوالهم الحزب الاموي، وبذلوا
الاموال الطائلة لمن لا حريجة له في الدين من الوضاعين والكذابين وحملة الاقلام
المسمومة لتشويه معالم الدين بتلفيق الاحاديث المنحرفة، وخلق احاديث ما انزل الله
بها من سلطان من المفتريات - امثال كعب الاحبار، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب،
والمغيرة بن شعبة، وابن ابي الدرداء، وغيرهم من الحاسدين والمنافقين والطامعين
الذين اظهروا الاسلام وابطنو الكفر والغدر والعداء لمؤسسي الدين، وفي طليعتهم ام
المؤمنين خديجة (عليها السلام) ليعزوا اليها انها تزوجت باعراب جاهليين، وتركت
سادة قريش واشرافهم، وانجبت منهم البنات اللاّتي تزوجن في الجاهلية من المشركين،
ومن ثم تزوجن بعثمان بن عفان بعد اسلامهن - ليشرفوه بلقب «ذي النورين».
والحقيقة كما ذكرنا في المقدمة انهن بنات
(هالة) اخت خديجة من الاعرابي عتيق المخزومي، او من ابي هند التميمي الى غير ذلك
الادلة المقبولة عقلاً ونقلاً من الفريقين.
والحقيقة التاريخية الثابتة والمنطقية،
هي ان زينب ورقية، بنات اخت خديجة (هاله) تزوجها رجل مخزومي فولدت منه بنتاً، ثم
خلف عليها زرارة التميمي يقال له (ابو هند) فاولدها ولداً اسمه هند بن ابي هند
وابنتين زينب، ورقية، ومات ابو هند وقد بلغ ابنه هند والتحق بقومه، وبقيت هالة اخت
خديجة، والبنتان اللتان من التميمي «زينب ورقية» فضمتهم خديجة اليها ، وبعد
ان تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بخديجة بمدة يسيرة ماتت اختها هالة، وخَلَّفت البنتين، (زينب ورقية) في حجر رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحجر خديجة.
وكان من سنة العرب في الجاهلية إنّ من
يربي يتمياً ينسب ذلك اليتيم اليه، ولا يستحل التزوج بمن يربيها، لانها كانت عندهم
بزعمهم بنتاً لمربيها، فلما ربّى رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وخديجة هاتين البنتين اصبح نسبتهما اليهما، وهما في
الحقيقة بنتا ابي هند التميمي من زوجته هالة اخت خديجة.
الى آخر ما ذكر في اعيان الشيعة، نقلاً
عن كتاب الاغاثة، للشريف ابي القاسم علي بن احمد الكوفي العلوي المتوفى سنة 352.
وقد تزوجت زينب حين بلوغها بابي العاص بن
الربيع زعيم المشركين، وهل من المعقول والمنطق ان النبي الهادي للامة من ضلال
المشركين ان يزوج ابنته من ابن زعيم المشركين؟ وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامينه على وحيه الذي صدع
بجهاد المشركين وتسفيه احلامهم كما ان رقية وام كلثوم تزوجتا بعتبة وعتيبة ابني
عبد العزى بن عبد المطلب عم النبي المعروف «بابي لهب»، والذي نزلت فيه سورة تندد
به وتلعنه - «تبت يدى ابي للهب وتب» الى اخر السورة التي تصف امرأته ام جميل بنت
ابي سفيان بحمّالة الحطب، فهل من المنطق والمعقول لذوي الالباب ان يزوج بنتيه الى
فساق المشركين من قريش؟! - لا ه الله - والف كلا وما عرض هذا على عاقل ولبيب فصدق
- وقد قيل: «حدث العاقل بما لا يليق فان صدق فلا عقل له».
وممّا يدلّ على ما قدمناه ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما انفك طيلة ايام حياته ومن
حين ما توفت زوجته خديجة يحيط جلّ عنايته ورعايته ببضعته الزهراء فاطمة (عليها
السلام) ويشيد بمكارمها ويوسعها حباً وحناناً، وكذلك الاحاديث العديدة في فضل
فاطمة الذي نطق بها الصادق الامين، والتي لا تعد ولا تحصى والمعتبرة عند الفريقين،
والمتواترة الى حد الامتناع من النيل منها او الخدش في صحتها - منها: «فاطمة بضعة
مني» و «من اغضب فاطمة فقد أغضبني» و «فاطمة روحي التي بين جنبي» ، و «ان
الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»، وغيرها.
وهل وجدت ايها المنصف شيئاً من ذلك في حق
زينب، أو رقية، او ام كلثوم؟ اذا كنّ اخوات فاطمة من صلبه ومن خديجة، حاشا للهِ
وعدالته ان يفرق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بينهن وبين فاطمة اذا كانتا من صلبه؟!! اللّهم ان هذا بهتان عظيم، واعوذ بالله من
الخطل، والزلل، والتعصب الاعمى.
وقد ثبت بعد التحقيق، ان البنات اللاّتي
نسبن الى خديجة (عليها السلام) من غير النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لم يكنّ بناتها، وكذا اللاّتي نسبن اليها من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد اُدّعيَ ان عثمان بن عفان
تزوج منهن اثنتين، هما زينب، ورقية، لذا لقب بـ (ذي النورين).
ان رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) لم يرزق من البنات إلاّ فاطمة الزهراء (عليها السلام)
والاّ القاسم الذي يكنى به فعاش حتى درج ثم مات، وعبد الله المكنى بالطاهر والطيب
وقد ماتا صغيرين في مكة وكلاهما من السيدة الطاهرة (خديجة الكبرى) (عليها السلام).
واما ولده (صلى
الله عليه وآله وسلم) (ابراهيم) فمن السيدة مارية القبطية، فقد ولد ومات
صغيراً في المدينة المنورة، ودفن في البقيع وقد حصل لنا شرف زيارته، وقبره للان
شاخص معلوم، وكان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن تنحصر ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بضعته الطاهرة فاطمة
الزهراء - الكوثر الذي ذكره سبحانه وتعالى في محكم كتابه المجيد - (انا اعطيناك
الكوثر) ومن صُلْبِ اخيه وابن عمه وخليفته من بعده علي بن ابي طالب (عليه السلام) وهما الامامان «الحسن والحسين» صلوات الله
عليهما، ليستمر النسل الطاهر المبارك في الائمة الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين،
مصداقاً للاية الشريفة المذكورة اعلاه.
ولاتمام الصورة وايضاح الامر انقل
مقتطفات مما ذكره العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى عن حياة السيدة خديجة الزوجية
في موسوعته الصحيح من السيرة ج2 ص120.
وبالنسبة لعرض خديجة نفسها عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) نقول:
هكذا، تفعل الحرة العاقلة اللبيبة، فلا
تغرها زبارج الدنيا وبهارجها، ولا تبحث عن اللذّة لاجل اللذّة، ولا عن المال
والشهرة، وإنما تبحث عما يخدم هدفها الاسمى في الحياة، فتفعل - كما فعلت خديجة -
تردّ زعماء قريش، اصحاب المال والجاه، والقدرة، والسلطان، وتبحث عن رجل فقير لا
مال له، تبادر هي لعرض نفسها عليه ; لان كل ذلك لا يملا عينها، لانه كله ربما يكون
سبباً في تدمير الحياة والانسان، وحتى الانسانية جمعاء. وانما هي تنظر فقط إلى
الاخلاق الفاضلة، والسجايا الكريمة، وإلى الواقعية في التعامل، والسمو في الهدف.
لان كل ذلك هو الذي يسخر المال، والحياة،
والقوة، وكل شيء لخدمة الانسان والانسانية، وتكاملها في الدرجات العلى.
وتجدر الاشارة هنا إلى أن عامة المؤرخين
على اختلاف أذواقهم، ومشاربهم، ونحلهم، يقولون: إن خديجة كانت أجمل نساء قريش. كما
أنه لا ريب في أنها أفضل نسائه صلوات الله وسلامه عليها.
ولعل ذلك يفسر لنا السبب في غيرة بعض
نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منها، حتى
بعد وفاتها ; بحيث كُنَّ يُحاولنَّ تنقيصها، والازراء عليها باستمرار، مع أنهنَّ
لم يدركنها في بيت الزوجية أصلاً.
هذا، ولعل أم سلمة تأتي في المرتبة
الثانية بين أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد
خديجة، فضلاً واخلاصاً، وولاء، وحتى جمالاً، كما يظهر من كلام للامام الباقر (عليه السلام).
وعلى كل حال: فقد كان ذوات الجمال
والاخلاص من ازواجه (صلى الله عليه وآله وسلم)
يواجهْنَ الغيرة القاتلة، والتآمر المستمر من قبل البعض الاخر من نسائه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ممن لم يكنْ لهنَّ نصيب من
جمال، ولا من التزام تام بالادب النبوي الكريم. بل كُنَّ يؤذيْنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمواقفْهنَ وتصرّفاتهنَّ.
هل تزوجت خديجة بأحد قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
ثم إنه قد قيل: انه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتزوج بكراً غير عائشة،
وأما خديجة، فيقولون: إنها قد تزوجت قبله (صلى الله عليه
وآله وسلم)برجلين، ولها منهما بعض الاولاد. وهما عتيق بن عائذ بن عبد الله
المخزومي، وأبو هالة التميمي.
أما نحن فنقول: اننا نشك في دعواهم تلك،
ونحتمل جداً أن يكون كثير مما يقال في هذا الموضوع قد صنعته يد السياسة. ولا نريد
أن نسهب في الكلام عن اختلافهم في إسم أبي هالة، هل هو النباش بن زرارة أو عكسه،
أو هند، أو مالك، وهل هو صحابي أولاً. وهل تزوجته قبل عتيق. أو تزوجت عتيقاً قبله([57]).
ولا في كون هند الذي ولدته خديجة هو ابن
هذا الزوج أو ذاك، فإن كان ابن عتيق، فهو انثى([58])
وإلا فهو ذكر. وأنه هل قتل مع علي في حرب الجمل، أو مات بالطاعون بالبصرة([59]).
لا، لا نريد أن نطيل بذلك، وإنما نكتفي بتسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: قال ابن شهر آشوب: «وروى أحمد
البلاذري ، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر
في التلخيص: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)تزوج
بها، وكانت عذراء.
يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي الانوار
والبدع: أن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة([60])».
وثانياً: قال أبو القاسم الكوفي: «إن
الاجماع من الخاص والعام، من أهل الانال (الاثار ظ) ونقلة الاخبار، على أنه لم يبق
من أشراف قريش، ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم، إلا من خطب خديجة، ورام تزويجها،
فامتنعت على جميعهم من ذلك ; فلما تزوجها رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) غضب عليها نساء قريش وهجرنها، وقلن لها: خطبك أشراف
قريش وأمراؤهم فلم تتزوجي أحدياً منهم، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب، فقيراً، لا
مال له؟!
فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون
خديجة، يتزوجها اعرابي من تميم، وتمتنع من سادات قريش، وأشرافها على ما وصفناه؟!
ألا يعلم ذوو التمييز والنظر: أنه من أبين المحال، وافظع المقال؟!»([61]).
وثالثاً: كيف لم يعيرها زعماء قريش الذين
خطبوها فردتهم، بزواجها من اعرابي بوّال على عقبيه؟!
ورابعاً: لقد روي أنه كانت لخديجة أخت
إسمها هالة([62])،
تزوجها رجل مخزومي، فولدت له بنتاً اسمها هالة، ثم خلف عليها - أي على هالة الاولى
- رجل تميمي يقال له: أبو هند ; فأولدها ولداً اسمه هند.
وكان لهذا التميمي إمرأة أخرى قد ولدت له
زينب ورقية، فماتت، ومات التميمي، فلحق ولده هند بقومه، وبقيت هالة أخت خديجة
والطفلتان اللتان من التميمي وزوجته الاخرى ; فضمتهم خديجة إليها، وبعد أن تزوجت
بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ماتت هالة،
فبقيت الطفلتان في حجر خديجة والرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم).
وكان العرب يزعمون: أن الربيبة بنت،
ولاجل ذلك نسبتاً إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)،
مع أنهما ابنتا أبي هند زوج أختها وكذلك كان الحال بالنسبة لهند نفسه([63]).
ولربما يمكن تأييد هذه الروايات بما ورد
من الاختلاف في اسم والد هند، فلتراجع المصادر التي ذكرناها ثمة.
واننا بالاضافة إلى ما قدمناه آنفاً عن
الاستغاثة نذكر:
أن مما يدل على عدم كون زوجتي عثمان بنات
له (صلى الله عليه وآله وسلم) - عدا عن كون بعض
الاقوال تنافي ذلك - ماذكره المقدسي، عن سعيد بن أبي عروة، عن قتادة، قال: ولدت
خديجة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عبد
مناف في الجاهلية، وولدت له في الاسلام غلامين، واربع بنات: القاسم، وبه كان يكنى:
أبا القاسم ; فعاش حتى مشى، ثم مات، وعبد الله، مات صغيراً. وأم كلثوم. وزينب.
ورقية. وفاطمة([64]).
وقال القسطلاني بعد كلام له: «وقيل: ولد
له ولد قبل المبعث، يقال له: عبد مناف، فيكونون على هذا اثني عشر، وكلهم سوى هذا
ولد في الاسلام بعد المبعث»([65]).
كما أن بعضهم ينص على أنه قد صح عنده: أن
رقية كانت أصغر من الكل حتى من فاطمة (عليها السلام)([66]).
وبعد هذا، فكيف نصدق قول من يقول: انهما
تزوجتا في الجاهلية من ابني أبي لهب، ثم جاء الاسلام ففارقاهما.
يقول المقدسي: «فزوّج رسول الله رقية
عثمان بن عفان، وهاجرت معه في الهجرتين إلى الحبشة، وأسقطت في الهجرة الاولى علقة
في السفينة»([67]).
نعم، كيف نصدق هذا، ونحن نعلم: أن الهجرة
الاولى إلى الحبشة كانت بعد البعثة بخمس سنين، فكيف تكون رقية قد تزوجت قبل البعثة
بإبن أبي لهب، ثم فارقها ليتزوجها عثمان، ثم تحمل منه قبل الهجرة إلى الحبشة، وهي
انما ولدت بعد البعثة؟! إن ذلك لعجيب!! وعجيب حقاً!!.
وثانياً: لقد ذكرت بعض الروايات: أن أبا
لهب قد أمر ولديه بطلاق رقية وأم كلثوم بعد نزول سورة «تبت يدا أبي لهب»([68]).
مع أنهم يقولون: إن هذه السورة قد نزلت حينما كان النبي والمسلمون محصورين في
الشعب([69]).
وقد كان ذلك بعد الهجرة الاولى إلى الحبشة.
وثالثاً: لقد روي: أن خديجة ولدت للنبي
عبد الله، ثم أبطأ عليها الولد، فبينما رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) يكلّم رجلاً، والعاص بن وائل ينظر إليه، إذ مرّ رجل
فسأل العاص عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقال: من هذا؟
قال: هذا الابتر.
فأنزل الله: (إن شانئك هو الابتر)([70]).
فظاهر الرواية: أنها حين ولدت عبد الله
لم تكن قد ولدت غيره، أو أن من ولدتهم ماتوا جميعاً حتى لم يعد للنبي أولاد أصلاً.
مع أن رقية كانت عند عثمان قبل ولادة فاطمة، فلا يصح وصف العاص للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالابتر فتنزل الاية.
إلا أن يقال: إن العرب لم تكن تهتم
بالبنات، بل الميزان عندهم هو خصوص الذكور، ولاجل ذلك وصفه العاص بالابتر.
ورابعاً: قد تقدم أن هناك من يقول: إن
خديجة إنما تزوجت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قبل البعثة بعشر أو ببثلاث، أو بخمس سنوات، فكيف تكون رقية وزينب قد ولدتا من
خديجة، وتزوجتا قبل البعثة؟!.
خامساً: ان الدولابي يقول: إن عثمان كان
قد تزوج رقية في الجاهلية([71]).
وذلك كله يؤكد ويؤيد: أن رقية التي
تزوجها عثمان هي غير رقية التي يدعي أنها بنت الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم)، والتي يقال: إنها ولدت بعد البعثة، وأن التي تزوجها
عثمان هي ربيبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
لا إبنته. وقد كانت العرب تطلق على ربيبة الرجل أنها ابنته كما قلنا: وكذلك يقال
بالنسبة لام كلثوم، لان الفرض أنها قد ولدت بعد البعثة أيضاً.
هل زينب بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أم ربيبته؟
وأما عن زينب فلا نستطيع أن نطمئن إلى
أنها كانت بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أيضاً، لاننا بالاضافة إلى أن ما قدمناه آنفاً حول زوجتي عثمان، كله بعينه جار هنا
إذا كان أبو العاص بن الربيع قد تزوجها قبل البعثة - نشير إلى ما يلي:
1 - قال مغلطاي عن خديجة: «ثم خلف عليها
أبو هالة النباش بن زرارة فولدت له هنداً، والحرث، وزينب، وكانت تكنى أم هند،
وتدعى الطاهرة»([72]).
2 - وعن عمرو بن دينار: أن حسن بن محمد
بن علي أخبره: أن أبا العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان
زوجاً لبنت خديجة فجيء به للنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في قدّ، فحلّته زينب بنت النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)الخ([73]).
فالتعبير أولاً ببنت خديجة يشير أنها لم
تكن ابنته (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان عاد
فذكر أنها بنت النبي ; فلا يبعد أنه يريد بنوتها له بالتربية، وإلا فلماذا خصها
أولاً بأنها بنت خديجة؟! فنسبتها إلى خديجة أولاً يكون قرينة على ارادة بنوتها
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتربية.
والتبني.
3 - ويذكر الشيخ محمد حسن آل ياسين عن
زينب أن: بعض المصادر تقول: إنها ولدت وعمره (صلى الله
عليه وآله وسلم)ثلاثين سنة([74])،
وتزوجها أبو العاص بن الربيع قبل البعثة، وولدت له علياً مات صغيراً، وامامة،
اسلمت حين اسلمت أمها أول البعثة النبوية([75]).
وذلك غير معقول، فإنه لا يمكن لبنت في
العاشرة أن تتزوج، ويولد لها بنت، وتكبر تلك البنت حتى تسلم مع أمها في أول البعثة
; وهذا حيث لا تزال أمها في العاشرة من عمرها([76]).
ولكن كلام هذا الباحث غير متين، لان
المقصود بالتي أسلمت هي وأمها، زينب وخديجة، وليس المقصود هنا أمامة وزينب وذلك
ظاهر لا يخفى.
وبالنسبة لام كلثوم فإن الروايات تذكر:
أن علياً حين هاجر اصطحب معه خصوص الفواطم، وأم أيمن، وجماعة من ضعفاء المؤمنين([77]).
وليست أم كلثوم بينهم ; فهل هاجرت قبل ذلك، أو بعده وحدها؟ وكيف لم يصطحبها علي (عليه السلام) معه ليحميها من كيد قريش؟ ولماذا؟
ولماذا؟!.
وبعد ما تقدم نستطيع أن نقول: إننا لا
يمكن أن نطمئن بشكل نهائي إلى ما يقال: من أن عثمان قد تزوج ابنتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للاحتمال القوي بأن تكونا
ربيبتيه. وكذا بالنسبة لزينب زوجة أبي العاص.
وعلى هذا فيصح أن يقال: لمن تزوج ربيبة
لشخص: أن ذلك الشخص قد صاهره، ونال درجة من القرب منه، وعلى هذا فلا منافاة بين
ماذكرناه، وبين قول أمير المؤمنين (عليه السلام)
لعثمان: «وقد نلت من صهيره مالم ينالا»([78]).
لكن يبقى: أن ذلك الصهر هل قام بواجباته
تجاه ذلك الذي أكرمه بتزويج ربيبته له؟! فهذا بحث آخر، وله مجال آخر، وستأتي بعض
الاشارات لما كان من عثمان في حق زوجيته ربيبتي النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومهما يكن من أمر فقد طبع لنا كتاب باسم
بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم ربائبه،
فليرجع اليه من أراد التفصيل([79]).
ولعل اصرار الاخرين على بنوتهن له (صلى الله عليه وآله وسلم)، وارسالهم له إرسال المسلمات،
يهدف إلى إيجاد منافسين لعلي في فضائله الخارجية، ولذلك أطلقوا على عثمان لقب «ذي
النورين»!! هذا، مع العلم بأن سيرته لم تكن مع هاتين البنتين على ما يرام، كما سوف
نشير إليه حين الحديث عن وفاتهما في الجزء الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى([80]).
ودبج بعض مؤرخي السنة أحاديث موضوعة
يزعمون فيها تزويج بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وخديجة من سادات قريش المشركين قبل البعثة، واطلقوها باسلوب روائي منمق في قول لا
يستند إلى دليل، ومتناقض الفحوى.
وقد اعرضنا عمّا ذكره المؤرخون السنة
بروايات ملفقة من نسيج الحزب القرشي والحزب الاموي واتباعهم المرتزقة من رواة
السوء الوضاعين ليرفعوا بذلك شأن عثمان بن عفان، حتى يوصلوه الى مصاف الامام علي (عليه السلام)وجهاده.
والثابت عند المؤرّخين المنصفين، ان
زينب،
ورقية، وام كلثوم، كنَّ بنات (هالة) اخت السيدة
خديجة، وهنَّ من زوجها، أبي هند التميمي ولما مات الاب بقين مع امهن، وهند التحق
باهله فلما اقترن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالسيدة خديجة، وماتت هاله بعد زواجهما بقليل، بقيْنَ في كنفِ خالتهنَّ خديجة،
فثبتهم وتبناهنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وفي عرف عرب الجزيرة أن منْ يتبنى يتيماً يدعى بمن تبناه - فمحمد وخديجة - أبواهن
بالتبني، هذا ما صح عرفاً، وروايةً، وعقلاً.. والله العالم ببواطن الامور. انتهى
كلام السيد جعفر مرتضى في موسوعته([81]).
وقد جاء في كلمات بعض المتشرقين المتهمين
على الاسلام انه (صلى الله عليه وآله وسلم) انما
تزوج خديجة طمعاً في مالها، ولا نريد الاسهاب في الاجابة على هذا الهذيان، فان
حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بدايتها
الى نهايتها لخير شاهد على انه ما كان يقيم للمال وزناً.
ولقد انفقت السيدة خديجة (عليها السلام)
كل اموالها طائعة راغبة، في سبيل الدعوة الى الاسلام وفي سبيل هذا الدين، ثم ان
السيدة خديجة هي التي عرضت نفسها على النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) ولم يتقدم هو (صلى الله عليه وآله
وسلم) بطلب يدها، ليقال: انما فعل ذلك طمعاً في مالها. وهذا ممّا لفّقه
اعداء الاسلام.
وانما تفعل الحرة العاقلة اللّبيبة ذلك،
فلا تغرها زبارج الدنيا وبهارجها، ولا تبحث عن اللّذة لاجل اللّذة ، وعن
المال للشهرة، انما تبحث عمن يخدم هدفها الاسمى في الحياة، وعن الاخلاق الفاضلة
والسجايا الحميدة، والواقعية في التعامل والسمو في الهدف، لان كل ذلك هو الذي يسخر
المال والجاه والقوة وكل شيء لخدمة الانسان والانسانية، وتكاملها في الدرجات
العليا.
وذكر العلامة الاميني - في غديره:
شعر ام المؤمنين خديجة... كانت رقيقة
الشعر جداً، ومن شعرها في تمريغ البعير وجهه على قدمي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ونطقه بفضله كرامة له (صلى الله عليه وآله وسلم) قولها..
نطق
البعير بفضل احمد مخبرا * * * هذا الذي شرقت به ام القرى
هذا
محمّد خير مبعوث أتى * * * فهو الشفيع وخير من وطئ الثرى
يا
حاسديه تمزقوا من غيضكم * * * فهو الحبيب ولا سواه في الورى([82])
في ذكاء فاطمة الزهراء، وخلقها، قول ام
المؤمنين خديجة (عليها السلام) عنها: كانت فاطمة تحدث في بطن امّها، ولما ولدت
وقعت على الارض ساجدة[لله] رافعةً اصبعها([83]).
جاء في كتاب - نساء أهل البيت (عليهم
السلام)([84])
- ايتها السيدة الكريمة ان تاريخ النساء في دنيا التاريخ، لم يحفظ في أوراقه ان
إمرأة من فضليات النساء في دنيا النساء، قد فاحت سيرتها بالعطاء كما كانت ام
المؤمنين خديجة الطاهرة.
لقد تناول التاريخ سيرة نساء كثيرات،
اشتهرن بجانب او اكثر من العبقريات ولكنه لم يحدثنا - كما حدثنا عن السيدة خديجة
من بلوغ قمم المكارم في كل الفضائل، ولم يستطع ان يحصر تلك الفضائل بين دفتيه. فقد
- ولدت السيدة خديجة في بيت مجد وسؤدد قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً، عام 68 قبل
الهجرة وحينما توفيت كان عمرها 65 عاماً اي قبل الهجرة بثلاث سنين، في مكة لعشر
خلون من شهر رمضان من السنة العاشرة من النبوة بعد وفاة ابي طالب بثلاثة أيام
وامها فاطمة بنت زائدة بن الاصم([85]).
ولقد كانت واسطة العِقدِ في نساء أهل
البيت الذي اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اصبحت خديجة سيدة نساء قريش قبل ان تبلغ
الخامسة والعشرين من عمرها، وكانت امرأة عالية الهمة ، جياشة العواطف واسعة
الافق، مفطورة على التدين والنقاء والطهر، حتى عرفت بين اترابها وبين نساء قريش
بالطاهرة([86])
وناهيك بهذه الصفة التي حلّقت بها فجعلتها في سماء السبق الى ساحة المعالي.
في ليلة غارت نجومها، واحلولك ظلامها،
جلست خديجة في بيتها، بعد ان طافت مراراً حول الكعبة، كعادتها كل ليلة، وما ان
اسلمت جنبها للرقاد حتى استسلمت للنوم وراحت في سبات عميق.
ورأت فيما يرى النائم شمساً عظيمة تهبط
من سماء مكة لتستقر في دارها، وتملا جوانب الدار نوراً وبهاء، ويفيض من دارها
ليغمر كل ما حولها بضياء يبهر النفوس ، قبل ان يبهر الابصار.
هبت خديجة من نومها، وراحت تدير عينيها
فيما حولها بدهشة فاذا بالليل ما يزال يسربل الدنيا بالسواد.
عندما غادر الليل الدنيا، غادرت خديجة
فراشها، مع اشراقة الشمس وتسربلت جلبابها وغادرت البيت في طريقها الى دار ابن عمها
ورقة بن نوفل، لعلها تجد عنده تفسيراً لحلمها، فألفته قد عكف على قراءة صحيفة من
صحف السماء التي شغف بها، وما ان سمع صوتها حتى هب مرحّباً، وقال متعجباً: خديجة
الطاهرة؟!!
قالت: هي.. هي، قال في دهشة: ما جاء بك
الساعة؟ جلست خديجة، وراحت تقص عليه ما رأت في منامها حرفاً حرفاً، ومشهداً
مشهداً.
وكان ورقة يصغي اليها باهتمام، وما ان
انتهت من كلامها، حتى تهلل وجهه بالبشر، وارتسمت على شفتيه ابتسامة الرضا، ثم قال
لخديجة في هدوء ووقار، ابشري يا ابنة العم... لو صدّق الله رؤياك ليدخلن نور
النبوة داركِ.. الله اكبر. ماذا تسمع خديجة، ومالذي يقوله ابن عمها؟ وجمت خديجة
لحظات... وسرت في بدنها قشعريرة. وظلت خديجة تعيش على رفرف الامل وعبير الحلم الذي
رأته.
وكانت خديجة إذا تقدم اليها سيد من سادات
قريش لخطبتها، تقيسه بمقياس الحلم الذي رأته.
ذكر اهل الاخبار انه كان لنساء قريش عيد
يجتمعن فيه عند الحرم، وفي احد الاعياد، خرجت خديجة من بيتها نحو الكعبة ثم طافت
بالبيت العتيق سبعاً، وراحت تبتهل الى الله وتدعوه في صدق ان يحقق لها حلمها، ثم
انطلقت نحو نسوة كن بالقرب من الكعبة، وجلست معهن يتجاذبن اطراف الحديث، وفي تلك
الساعة، قطع اصواتهن صارخ وقف بالقرب منهن، وكان حبراً من اليهود، وصاح يا معشر
نساء قريش... فالتفتن اليه واصخن السمع فقال: يا معشر نساء قريش، انه يوشك فيكن
نبيّ، أفأيّتكن استطاعت ان تكون له فراشاً فلتفعل ، ويبدو ان نسوة قريش حسبنه
يهذي، فرماه بعضهنّ بالحصباء، وبعضهن بالسباب، واغلظن له القول ، وطردنه من
ذلك المكان، إلاّ السيدة خديجة فقد خفق قلبها، من حديث اليهودي، وهاج ذكرياتها
واعاد الى ذهنها حلمها الذي ليس هو ببعيد، ترى متى يكون ذلك اليوم؟ وفي كتاب نساء
الرسول([87]).
وفي غمرة حيرتها واضطرابها، زارتها
صديقتها نفيسة بنت منبّه، فما زالت تحادثها حتى كشفت دخيلة نفسها وما انطوت عليه
اضلاعها، فهونت الامر عليها، وما ان خرجت نفيسة من عند خديجة حتى انطلقت الى
الصادق الامين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
وابتدرته متسائلة بذكاء حذر، ما يمنعك ان تتزوج يا محمد؟ قال لها: مافي يدي ما
اتزوج به، فابتسمت قائلة، فإن كُفِيتَ ودُعِيت الى المال والجمال والشرف والكفاءة
فهل تجيب؟
فرد متسائلاً: ومن؟ قالت على الفور:
خديجة بنت خويلد، فقال: إن وافقت فقد قبلت.
وانطلقت نفيسة لتزف البشرى الى خديجة،
واخبر الصادق الامين اعمامه برغبته في الزواج من خديجة، فذهب ابو طالب ومعه من
سادات عبد مناف وحمزة وغيرهما الى عم خديجة «عمرو بن اسد بن عبد العزى بن قصي»
لخطبتها كما تقدم ، فاثنى عليه عمها وانكحها منه على صداق قدره عشرون بكرة.
الى آخر ما تقدم من المصادر.
ولما نزل (صلى
الله عليه وآله وسلم) من غار حراء، وجاءه جبرئيل بالوحي وبشره بالنبوة دخل
داره وزوجته خديجة في انتظاره قال: زملوني، زملوني، دثروني، دثروني.
ضمته السيدة خديجة الى صدرها، واحاطته
باسمى عواطفها، وهتفت في ثقة ويقين «الله يرعاك يا ابا القاسم ، ابشر يا ابن
عم واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده، إني لارجو ان تكون نبي هذه الاُمَّة، والله لا
يخزيك الله أبداً... انك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتقرى الضيف
وتعين على النوائب، واطمأن فؤاد النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم)امام هذا التثبيت، وعاودته سكينته امام تصديق زوجته وايمانها بما
جاء به... الى آخر ماذكرناه في ما سبق.
اخرج ابن السني بسنده عن خديجة: انها
خرجت تلتمس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باعلى
مكة ومعها غداؤه، فلقيهما جبرئيل (عليه السلام) في
صورة رجل، فسألها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فهابته وخشيت ان يكون بعض من يريد ان يغتاله، فلما ذكرت ذلك للنبي، قال لها: هو
جبرئيل وقد امرني ان اقرأ عليك السلام، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه
ولا نصب. ([88])
ابو زكريا يحيى بن محمد العنبري... عن
عفيف بن عمرو قال: كنت امرأ تاجراً، وكنت صديقاً للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية
فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى، فجاء رجل فنظر الى الشمس حين
مالت فقام يصلّي، ثم جاءت امرأة فقامت تصلي، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام
يصلي، فقلت للعباس: من هذا؟ فقال هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن اخي يزعم
انه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذه المرأة خديجة بنت
خويلد امرأته وهذا الغلام ابن عمه علي بن ابي طالب، قال عفيف الكندي «بعد ان اسلم
وحسن اسلامة» لوددت اني كنت اسلمت يومئذ فيكون لي ربع الاسلام. هذا حديث صحيح
الاسناد ولم يخرجاه، وله شاهد معتبر من اولاد عفيف بن عمرو.
(3) عن محمد بن عبيد الله بن ابي رافع عن
ابيه عن جده ابي رافع (رضي الله عنه) عنه ان رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) صلى يوم الاثنين وصلّت خديجة معه، وانه عرض على عليّ
يوم الثلاثاء الصلاة فأسلم وقال: دعني اوامر ابا طالب في الصلاة قال: فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): انما هو أمانة. فقال علي:
فاصلي اذن، فصلى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يوم الثلاثاء، هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
كانت جزيرة العرب وما حولها ظمأى ترهقها
الجاهليّة بعذاباتها وسياط طيشها، حين تفجر ينبوع الاسلام الهادي كنبع من الماء
الصافي الرقراق في تلك الصحارى المجدبة من كلّ خير من أجل أن يروّي عطش الدنيا إلى
الحقّ والهدى والسلام.
لقد جاء الاسلام الحنيف بدعوته إلى الخير
والمعروف والعدل والصلاح بلسماً لجراح المعذبين والمظلومين في الارض، وكانت المرأة
أكثر عباد الله نصيباً من هذا الخير المنقذ..
وفي هذا البحث المتواضع نقدم للقاريء
الكريم دراسة لحياة السيّدة الخالدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين الاولى (عليها
السلام)، لتكون نموذجاً يحتذى من قبل المسلمات في كلّ عصر وجيل، وقدوة للمؤمنات
العاملات للحقّ، الباذلات للمعروف والحافظات لحدود الله..
من هي السيّدة خديجة أم المؤمنين؟
احتلت خديجة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذروة من قريش في نسبها
وشرفها، فهي من القوادم في كيان قريش لا من أذنابها.
وكانت من عقائل قريش وسيدة نساء مكة، وهي
تلتقي برسول الله محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) من جهة أبيها بالجد الاعلى الشريف «قصي» ومن جهة أمها بلؤي بن غالب،
فهي قرشيّة أباً وأماً، ومن الشجرة الطيّبة في قريش.
فمن جهة أبيها هي: خديجة بنت خويلد بن
أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة ببن لؤي بن غالب بن فهر بن مالم بن النضر
بن كنانة.
وأمّها: فاطمة بنت زائدة بنت الاصم
(واسمه جندب) بن رواحة الهرم ابن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن
فهر([89]).
ويحفظ التاريخ من مفاخر أبيها «خويلد بن
أسد» أنّه تصدى لتبع ملك اليمن وحال بينه وبين السطو على الحجر الاسود وحمله إلى
مملكته في اليمن.
ومنذ مطلع حياة السيّدة خديجة كانت قريش
تتوسم فيها النبل والطهر وسمو الاخلاق حتى لقبت بالطاهرة([90]) ،
كما لقبت بسيّدة قريش بالنظر لعلو شأنها، وشرف منبتها وكرم أصلها، وحميد أفعالها.
الامر الذي يفسّر السر المكنون بامتناع
خديجة من الاقتران بأي أحد من قريش حتى توفرت ظروف اقترانها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، رغم ما بذل عليه قومها من
محاولات لزواجها، إلاّ انها كانت ترفضهم جميعاً منتظرة أمراً ما سيحدث في حياتها،
فيكمل شوط مسيرتها نحو الكمال الذي اختاره الله عز وجل والذي عبَّر عنه النبي
الصادق الامين (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله:
«حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ،
وخديجة بن خويلد وفاطمة بنت محمّد»([91]).
ومما تجدر الاشارة إليه، ان هذه المرأة
الجليلة قد ولدت قبل عام الفيل ببضع سنوات وتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وعمرها ثمان وعشرون سنة كما
روى ابن عباس (رحمه الله)([92])،
وان كان زواجها في غير هذا السن هو الذي اشتهر خطأ.
وهي أول امرأة أسلمت لله رب العالمين،
وصدّقت برسالة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
هذا، ومن الجدير ذكره، ان السيّدة خديجة قد توفيت قبل فرض الصلاة وقيل([93])
الهجرة الى المدينة بثلاث سنين.
وسنتعرض لتفصيل هذه الامور في الابحاث
القادمة ان شاء الله تعالى.
كانت السيدة خديجة رغم نبلها وشرفها
ومكانتها في الناس وسيادتها في بني أسد ونساء قريش وهي صفات كفيلة لوحدها لان
تؤهلها للرعاية والمحبّة والرضا من لدن رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم)، إلاّ انها فوق ذلك، قد وهبت كل وجودها لله ورسوله
ودعوة الحق التي صدع بها.
فقد وهبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ أموالها ليغطي بها نفقات
الدعوة والدعاة المستضعفين.
ولقد عاصرت أشدّ الظروف قسوة فما لانت من
قناتها أبداً، وتحدت أصعب الازمات وأكثر المواقف عسراً، وصبرت على الاذى في جنب
الله عز وجل، وسمت بذلك على نعيمها الدنيوي السابق، وركلت اخضرار العيش الذي
اعتادته برجليها لتعيش مع النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) محنته وآلامه التي صبتها عليه قريش وحلفاؤها وظلّت طوال عشر سنين من
المحنة تبث الامل في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وتشدّ من أزره، وتقوي من عزيمته على مواصلة المسير، وأنت خبير بما
تؤديه مواقف المرأة المشجّعة لزوجها من أثر ايجابي على الاستمرار في الصمود
والمواجهة وشدّ العزيمة.
وقد كانت أعظم مواقفها الجهاديّة في
تحديها لمحنة حصار شعب أبي طالب الذي فرض على بني هاشم من قبل طغات قريش وحلفائها.
فقد كان لمواقف السيّد خديجة المعروفة
لاضعاف قبضة الحصار أثرها الواضح المخلد في التخفيف من اضرار حصار المشركين على
الدعوة وأنصارها.
وهكذا تتجلى مكانة أم المؤمنين الكبرى
خديجة بنت خويلد (عليها السلام) كما نطق بها لسان الحق المقدس.
قبل الحديث عن زواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسيّدة خديجة بنت خويلد
(عليها السلام) لابد من التذكير، ان هذا الموضوع قد تعرّض إلى التشويه إلى حد
كبير، إمّا لعوامل سياسيّة تاريخيّة أو لعوامل الغيرة والحسد التي اتّصفت بها بعض
أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورة غير
اعتياديّة.
وأهمّ المواضيع التي نالها التزييف
والتشويه هو: الادعاء بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) كان هو الزوج الثالث لخديجة، بعد أن كانت قد تزوّجت بأثنين من سائر
الناس، واحد بعد الاخر تسمي الروايات الموضوعة أحدهما بعتيق ابن عابد المخزومي
ويدعى الاخر بأبي هالة هند بن زرارة بن نباش التميمي، ثم عاشت بعد وفاة الثاني
أيِّماً، حتى خطبها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
هكذا تصور الاخبار المنسوبة قصّه -
الحياة الاجتماعيّة - الزوجيّة لخديجة.
ونفس المصادر التي تروي قصّة زواجها
الاوّل والثاني تذكر بإصرار، أن خديجة عقيلة قريش كانت قد خطب ودها سادة القبائل
وعظماء قريش، ولكنها تعرض عنهم في كلّ مرّة بإباء سمح، وترغب عنهم مترفعة مع تواضع
لا يحطّ من قدر الخاطبين.
ولقد ذكر المؤرخون ان من جملة من خطبها
كان أبا جهل وأبا سفيان وعقبة بن أبي معيط والصلت بن أبي يهاب وغيرهم من سادة
القوم وعليتهم.
كما تقع المصادر نفسها في تشوش وتناقض
شديدين بالنسبة للزوجين المزعومين. فبعض المصادر تسمي أحدهما أبا شهاب عمرو
الكنذي، وتسميه اُخرى مالك بن النباش بن زرارة التميمي، واُخرى تسميه هند بن
النباش، واُخرى تسمّيه النباش بن زرارة.
وأما من دعي بعتيق بن عابد المخزومي، وهو
الزوج الثاني المفترض! ، فقد سمته بعض المصادر عتيق بن عابد التميمي([94])
إلى غير ذلك.
وهكذا تشرّق الادعاءات وتغرّب دون ضابطة
صحيحة ولا اشارة من علم!
ومن حقنا أن نتساءل: كيف يمكن للمصادر
التارخيّة أن توفق بين اصرار السيّدة خديجة (عليها السلام) على رفض جميع من خطبها بما
فيهم وجوه الناس وأشرافهم، وبين زواجها من شخصين من دهماء الناس على التوالي لم
تضبط الاخبار حتى اسماءهم؟!
ان هذا لشيء عجاب!
انّك لا تكاد تقرأ مصدراً حديثاً ولا
قديماً إلاّ وتجد الرفض القاطع الذي تبده السيّدة خديجة بنت خويلد لكل خاطب لها
مهما اعطي من مال أو جاه ومكانة، فكيف ترضى الاقتران بذين على ماهما عليه من
مغموريّة، وقلّة جاه ومكانة؟
ولكي نتخطى سطح المشكلة، ونواجه الواقع،
لابدّ من الاشارة إلى أن السيدة خديجة (عليها السلام) كانت لها أخت تسمى هالة([95])
تزوجت رجلاً من بني تميم أولدها ذكراً
أسماه هنداً.
وكان للتميمي زوجة أخرى أولدها بنتين
احداهما زينب والاُخرى رقيّة، ثم هلك الرجل، فالتحق هند بعشيرته وأهله في البادية،
والتحقت هالة وزوجة التميمي الاُخرى والبنتان بالسيّدة خديجة التي امتازت بمال
وفير وطيب نفس، فشملتهم جميعاً برعايتها.
وفي هذه الايام تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة فصارت زينب ورقيّة
تحت رعاية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)والسيّدة
خديجة (عليها السلام) حتى نسبتا إليهما، وهو أمر مألوف عند عرب ذلك الزمان([96])
وفق قاعدة التبني التي أبطلها القرآن الكريم بعد ذلك سنين في آية 4 من سورة
الاحزاب.
وهكذا تكون قضيّة هالة بنت خويلد وقصّة
زواجها
قد انسحبت على سيرة السيدة خديجة وحياتها بسبب ذلك التبني، حتى بلغت الحال أن
تشعبت بقصد وبغيرة لتكون زينب ورقيّة ابنتين لرسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) كما يكون الرجل المخزومي الذي كان أوّل زوج لهالة بنت
خويلد ثمّ زوجها الثاني التميمي قد نسبا إلى السيّدة خديجة كزوجين لها قبل زواج
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها.
وهكذا، تقحم حياة هالة الزوجيّة ونتائجها
على خديجة (عليها السلام) وحياتها الشخصيّة.
وممّا يعزز صحّة هذه الواقعة التارخيّة
الهامّة التي سردناها ماذكره ابن شهر آشوب المازندراني، حيث قال: روى أحمد
البلاذري وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في
التلخيص: انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
تزوج بها وكانت عذراء([97]).
هذا، ومن الجدير ذكره، ان المصادر التي
اعتبرت زينباً ورقيّة بنتين للنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) من السيّدة خديجة، قالت بولادتهما بعد البعثة ثم تقول ذات المصاددر،
ان رقيّة التي كانت أصغر بنات النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)([98])
قد تزوجت عثمان ابن عفان قبل الهجرة إلى الحبشة علماً بأن الهجرة المذكورة قد وقعت
بعد البعثة بخمس سنين.
فهل تنسجم العقول مع هذه التقولات
الساذجة([99])
التي تناقضت مع نفسها ومع الوقائع التارخيّة؟
كانت حياة السيّدة خديجة (عليها السلام)
مزيجة بين الرفض الصارم لكلّ من يطلب يدها من أجل الزواج، وبين الانتظار والامل
لمن يلبي طموحها المعنوي من الرجال كزوج وولي أمر.
وبينما كاد الرجال يقطعون الامل من
قناعتها بأي منهم ; كانت سيّدة قريش قد تحوّلت إلى اذن صاغية تتسمّع أخبار خير
شباب قريش الذي ملا ذكره الحسن، والحديث عن شمائله الطيبة في أركان مكّة ونواديها
حتى أسماه قومه بالصادق الامين، وهو لمّا يزل في ريعان شبابه، ذلك هو محمّد بن عبد
الله بن عبد المطلب.
فقد كانت تتوسّم أن يكون هو القرين
المنتظر لها، وبدأ حدسها يقترب من اليقين رويداً رويداً كلما تقدّمت الايّام.
وماذا يمنعها أن تنتظر وهي لا تزال في
عزّ شبابها، وغضارة جمالها؟ فقد تأمّلت كثيراً في حديث لاحّد أحبار اليهود حضر
المسجد الحرام وراح يتحدّث عن اقتراب موعد بعثة الرسول الموعود من هذه الديار، وهو
ينوه بالتهنئة للمرأة التي تكون له زوجة وسكنا([100]).
وجاءت الخطوة الاُخرى لتقرب الامل
المتَّقِد في وجدانها، فحيث امتلا سمعها بجميل ذكر محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتى أبي طالب شيخ الابطح،
بالنظر لعظيم أمانته، وكريم صفاته ونبل خصائصه، وصدق حديثه ومواقفه، فما بالها يا
ترى لا تعقد صفقة تجاريّة معه، تضاربه ببعض أموالها ليخرج بها متاجراً إلى الشام،
ومن كمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدقه
وسلامة سلوكه واستقامته؟
لقد انتفضت من غفلتها عنه، وكأنها لامت
نفسها عن طول هذه الغفلة عنه، فبعثت من يعرض عليه هذا المشروع التجاري المربح الذي
طالما اشرأبّت إليه أعناق الرجال، وعرضت عليه من خلال وسيطها أن يكون له من الربح
أفضل ما اعتادت أن تعطيه لمن تضاربه من التجّار.
ووجد رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) حاجةً في نفسه، فتداول مع عمّه أبي طالب في ذلك، فلم
يجد منه اعتراضاً.
وكان هذا الغرس الطيّب مدركاً أن عمه قد
كبر سنّه، وأثقلته السنون، فلابدّ من استثمار هذه الفرصة لدعم عمّه الكريم الذي
امتاز بجوده وكرمه ورعايته للناس رغم كونه أقلّ سادة قريش مالاً.
وخرج المصطفى (صلى
الله عليه وآله وسلم) في تجارته إلى الشام يصحبه ميسرة غلام خديجة الذي
أنابته عنها في هذا المشروع.
وقد كان ميسرة يقوم بمهمّتين معاً،
إحداهما: اقتصاديّة روتينيّة تتعلّق بالتجارة والمال وما إلى ذلك من شؤون.
وثانيتهما: معنويّة، ولعلّها كانت هي
المهمّة المركزيّة التي كُلِّف بها من قبل سيّدته خديجة!!
فقد كان موكولاً إليه أن يرصد محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كثب في هذه السفرة الطويلة
نسبياً، كي يقدّم تقريراً إلى السيّدة خديجة حول أبعاد شخصيّته، ليكمل الصورة عن
محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) لديها.
ويبدو أن ميسرة كان جديراً بإعطاء الصورة
المطلوبة ، ولذا اختارته سيدته لذلك.
وما أن صحب الغلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ ورأى الاعاجيب ممّا لم
يكن في حسابه ولا في تصوراته، فرغم طيب المعاشرة، وحسن الاخلاق، وصدق المعاملة،
وعظيم الامانة، فإن أمواراً خارجة عن المألوف تمكن ميسرة من مشاهدتها عياناً. إلى
آخر ما سبق ذكره.
1 - اعيان الشيعة: 6/ 308.
2 - طبقات بن سعد: 1/ 131.
3 - بحار الانوار: 16/ 81.
4 - الاصابة: 4/ 281 - الاستيعاب: 4/
279.
5 - صفة الصفوة لابن الجوزي: 7 ح125.
6 - نساء النبي - بنت الشاطى.
7 - سيرة اعلام النبلاء للذهبي: 2/ 109.
8 - مستدرك الحاكم: 3/ 182 - 186.
9 - اُسد الغابة: 7/ 78.
10 - مجمع الزوائد: 9/ 218 - 225.
11 - كنز العمال: 12/ 130 ح5/ 34334.
12 - موسوعة المصطفى: 1/
13 - تراجم اعلام النساء ص108.
14 - نساء أهل البيت - احمد خليل جمعة.
15 - نساء حول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - بسام حمامي.
16 - نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدمياطي.
17 - رسالة الثقلين.
هل هناك صلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل النبوة والبعثة ؟؟ أو هل هناك ذكر لجبرئيل قبل المبعث ؟
([30]) باقر شريف القرشي ـ حياة الامام الحسن بن علي (عليه السلام) ج1 / ط3 / ص40 نقلاً عن اسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الابصار للشبلنجي ص96 . وما يقرب من ذلك في مسند أحمد ج6 ص150 . وفي سنن ابن ماجة في باب الغيرة من أبواب النكاح .
([31]) محبّ الدين الطبري ـ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ص42 ط 1967 / وروى نظيره الحاكم في مستدركه ج3 ص157 وص125 وخرّجه أحمد وأبو حاتم .
([34]) سيرة ابن هشام : 1 / 238 ، ومثله الاستيعاب على هامش الاصابة : ج4 / 282 وكذلك في الاصابة نفس المصدر .
([40])
وفي ذلك يقول السيد الحميري (رحمه الله) :
حتى إذا قصدوا لباب مغارة %%% ألفوا عليه مثل نسيج العنكبِ %%% صنع الاله لهمُ فقال فريقهم %%% مافي المفازة لطالب من مطالبِ %%% مِيلوا وصدّهم المليك ومن يرد %%% عنهُ الدفاع مَليكه لم يعطبِ %%%
([45]) لما ادعى مسيلمة الكذاب النبوة أتته امرأة وطلبت منه ان يدعو الله لمائها ونخلها كما دعا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لاولئك القوم في بئرهم ، ففعل مسيلمة مثل ما فعل رسول الله وتفل في البئر ، فغار ماؤها ويبس نخلها .
([48]) الى هذا الحد اكتفي حتى لا اخرج عن الايجاز ، ومن يرد التفصيل والاستقصاء فليراجع كتب السير والتاريخ المنتشرة .
([55]) وقد حصل لي الشرف بزيارة مرقدها ومراقد اجداد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كلما سنحت لي فرص التشرف للحج او اداء العمرة المفردة .
([59]) للاطلاع على هذه الاختلافات وغيرها راجع المصادر التالية ، وقارن بينها : اإصابة ج3 ص611 / 612 ، ونسب قريش لمصعب الزبيري ص22 ، والسيرة الحلبية ج1 ص140 ، وقاموس الرجال ج10 ص431 ، ونقل عن البلاذري وأسد الغابة ج5 ص12 / 13 و 71 ، وغير ذلك .
([62]) لها ذكر في كتب الانساب ، فراجع على سبيل المثال : نسب قريش لمصعب الزبيري . الاستغاثة ج1 / 68 ـ 69 .
([63]) راجع : الاستغاثة ج1 ص68 ـ 669 ، ورسالة حول بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطبوعة ط حجرية في آخر مكارم الاخلاق ص6 .
([66]) راجع الاصابة ج4 ص304 عن الجرجاني ، والاستيعاب بهامش الاصابة ج4 ص299 ، 282 . وفي ص281 عن الزبير بن بكار ; أن عبد الله ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم رقية كلهم ولدوا بعد الاسلام ، وكذا في البداية والنهاية ج2 ص294 . ونسب قريش صفحة 21 .
([68]) نسب قريش لمصعب الزبيري ص22 وتهذيب تاريخ دمشق ج1 ص293 و 298 وأسد الغابة ج5 ص456 والاستيعاب ( مطبوع بهامش الاصابة ) ج4 ص299 والدر المنثور ج6 ص409 عن الطبراني .
([78]) نهج البلاغة ج2 ص85 وأنساب الاشراف ج5 ص60 والعقد الفريد ج3 ص376 والجمل ص100 عن المدائني والغدير ج9 ص74 . عن بعض من تقدم وعن تاريخ الامم والملوك ج5 ص96 وعن الكامل في التاريخ ج3 ص63 وعن البداية والنهاية ج7 ص168 .
([88]) رواه البخاري ـ في كتاب الانبياء ـ آل عمران / 42 ـ 45 ورواه مسلم في كتاب الفضائل ـ باب فضائل خديجة .
([89]) يراجع ابن المغازلي الشافعي أبا الحسن بن علي بن محمّد الواسطي الجلالي ت483 في مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) ط 2 عام 1402 هـ طهران ص329 ـ 330 . كما يراجع نسبها في سيرة ابن هشام : 187 ـ 189 والسير والمغازي لابن اسحاق : 82 وغيرها .
([91]) ابن المغازلي الشافعي / المصدر السابق ص363 نقلاً عن الترمذي في جامعه الصغير 5 : 367 وابن عبد البر في الاستيعاب والحاكم في المستدرك 3 : 157 بطريق ابن حنبل وغيرهم .
([92])
كشف الغمّة في معرفة الائمة ، أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي ت 693
هـ 2 : 135 ط دار الاضواء بيروت
وبحار الانوار ، المرحوم الشيخ محمّد باقر المجلسي 16 : 12
وغيرهما .
([94]) لمعرفة التناقض راجع البحار 16 : 22 والصحيح من سيرة النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) العلاّمة السيد جعفر مرتضى العملي 1 : 121 وما بعدها ، وفقه السيرة ، محمد سعيد البوطي : 61 ، والاستغاثة ، أبو القاسم الكوفي المتوفي عام 352 هـ وما بعدها .